
في قلب غرب السودان، حيث تتقاطع النار مع العطش وتتشابك الدماء مع الذهب، تقف الفاشر على حافة الهاوية. المدينة التي كانت يومًا عاصمة السلام والتجارة، أصبحت اليوم عنوانًا للفوضى الكبرى التي تلتهم دارفور وتفتح شهية القوى الإقليمية والدولية على إعادة رسم خريطة السودان. من يقطف ثمار الفوضى؟ سؤال يفرض نفسه في كل مشهد، مع كل صرخة نازح، ومع كل طلقة تقترب من قلب المدينة التي ما زالت تقاوم، لكنها تنزف بصمت موجع.
***
الوضع في دارفور لم يعد صراعًا داخليًا بين جيش ودعم سريع، بل تحوّل إلى حرب متعددة الوجوه والمصالح، تُخاض فيها المعارك بالوكالة أكثر مما تُخاض دفاعًا عن الوطن. الفاشر اليوم ليست مجرد عاصمة شمال دارفور، بل آخر ما تبقى من حضور الدولة في الإقليم. ومن يسقط الفاشر لا يسقط مدينة فحسب، بل يهدم آخر جدار يحمي السودان من الانزلاق الكامل إلى التقسيم والتشظي. سقوطها يعني بداية مرحلة جديدة، عنوانها الانفصال الواقعي، وولادة كيان جديد تفرضه القوة وتغذيه الأجندات الخارجية التي ظلت تنتظر لحظة الانقضاض.
***
دارفور الغنية بثرواتها والفقيرة في أمنها أصبحت ساحة مفتوحة لكل اللاعبين. السلاح يأتي من كل اتجاه، والولاءات تتبدل مع الريح، والناس يدفعون الثمن. القرى تُحرق، والمخيمات تتكاثر، والنازحون يقطعون الصحارى بحثًا عن الأمان الذي لا وجود له. في الوقت الذي تُغلق فيه طرق الإمداد إلى الفاشر، يُفتح الباب واسعًا أمام مشاريع التقسيم، تحت غطاء «الواقع الميداني». العالم يتحدث عن غزة، بينما دارفور تُباد في صمت، وكأنها خارج التاريخ والجغرافيا. لكن الحقيقة أن ما يجري هناك أخطر من الحرب ذاتها، لأنه يؤسس لتفكك الدولة من الداخل، لا من الخارج.
***
سقوط الفاشر لن يكون فقط هزيمة عسكرية، بل هزيمة سياسية وأخلاقية للدولة السودانية بأكملها. فحين تفقد الحكومة السيطرة على آخر مدينة مركزية في دارفور، فإنها تفقد معها ما تبقى من هيبتها، وتترك الإقليم يواجه مصيره بين فصائل ومليشيات وأطراف إقليمية تبحث عن نفوذ. بعض هذه الأطراف لا تخفي رغبتها في اقتطاع دارفور من الجسد السوداني، سواء عبر دعم حركات مسلحة أو عبر صفقات اقتصادية مشبوهة في تجارة الذهب والمعابر الحدودية. هكذا تتحول الحرب من معركة بقاء إلى صفقة نفوذ، ويصبح السؤال من جديد: من يقطف ثمار الفوضى؟
***
الفوضى في دارفور ليست صدفة، بل نتيجة تراكم طويل من الإهمال والتهميش والخذلان. سنوات من الوعود المكسورة، واتفاقات السلام التي لم تكتمل، وحكومات تناوبت على الفشل في بناء عقد اجتماعي حقيقي بين الدولة والمواطن. وحين جاءت الحرب الأخيرة، وجدت دارفور نفسها مكشوفة تمامًا، ساحة جاهزة للتفكك. وها هي الفاشر تدفع الثمن. المدينة التي صمدت رغم الجوع والحصار، تواجه اليوم أخطر لحظاتها، ليس لأنها ضعيفة، بل لأن من حولها يريدون لها أن تسقط.
***
اللاعبون كُثر، والأطماع لا تنتهي. بعض الدول المجاورة ترى في ضعف السودان فرصة لمد نفوذها شرقًا أو جنوبًا. قوى أخرى تبحث عن موطئ قدم جديد في قلب القارة الإفريقية. وشركات تعمل في الظل تستغل chaos الحرب لتهريب الذهب والنفط والموارد. الكل يمد يده إلى الجرح المفتوح، والكل يقطف من شجرة الفوضى ما يطيب له، بينما يموت أصحاب الأرض بلا صوت. إنها حرب بلا منتصر، لكنها مليئة بالمنتفعين.
***
دارفور كانت دائمًا مرآة لما يجري في السودان كله. حين تشتعل هناك، يشتعل الوطن بأسره. لذلك فالدفاع عن الفاشر اليوم ليس شأنًا محليًا، بل مسألة بقاء وطن. إن سقطت الفاشر، سيسقط معها الإحساس الأخير بوحدة السودان، وسيتحول البلد إلى فسيفساء من الكيانات المسلحة، يحكمها الولاء القبلي والمصلحة الاقتصادية بدلًا من القانون والدولة. والخوف الأكبر أن يصبح السودان نموذجًا جديدًا للتفكك الإفريقي، دولة تتفتت بهدوء أمام أعين العالم.
***
ومع ذلك، لا تزال الفاشر تصمد. رغم القصف والحصار وانقطاع الإمدادات، ما زال في المدينة نبض حياة، وجيش يقاتل بآخر ما تبقى من قوة، وسكان يرفضون الرحيل لأنهم يدركون أن بقاءهم هو آخر خيط يربطهم بالسودان الذي يعرفونه. لكن الزمن يضيق، والفوضى تتسع، وأصابع الخارج تمتد أكثر فأكثر في تفاصيل الداخل. كل تأخير في إنقاذ الفاشر هو خطوة إضافية نحو التقسيم، ونحو ضياع الدولة.
***
في النهاية، سيبقى السؤال معلقًا: من يقطف ثمار الفوضى؟ الذين أشعلوها أم الذين سكتوا عنها؟ أم الذين ينتظرون من بعيد ليُقسِّموا الخرائط وفق مصالحهم؟ في دارفور، لا أحد يربح سوى الخراب. وما لم يدرك السودانيون أن سقوط الفاشر هو سقوط للوطن كله، فسيأتي يوم لا يجد فيه أحد ما يقطفه سوى رماد البلاد









