الأخبار

ثنائية التبعية المُقيدة.. سودانير شركة تتقاسمها جهتان

كتب: إبراهيم عدلان

لم تكن الخطوط الجوية السودانية (سودانير) ضحية أزمة مالية أو فنية فحسب، بل ضحية ثنائية تبعية قاتلة تقاسمتها جهتان حكوميتان: وزارة المالية ووزارة النقل. هذا الازدواج الهيكلي عطّل القرار، شلّ الإرادة، وجرّد الناقل الوطني من مقومات البقاء والمنافسة.

وزارة المالية: المالك بلا رؤية تشغيلية

بوصفها الجهة المالكة لأصول الدولة، احتفظت وزارة المالية بسلطة الإشراف المالي والإداري على سودانير، لكنها تعاملت معها بمنطق الوحدة الحكومية المنفقة لا الشركة الاستثمارية المنتجة.
أصبح التركيز على ضبط الصرف ومراقبة البنود، بينما كانت الشركة تحتاج إلى سيولة تشغيلية مرنة واستثمارات تُجاري ديناميكية صناعة الطيران.
وهكذا، أُخضعت قرارات الصيانة والتحديث والتوسع لمنظورٍ ماليٍ جامد لا يواكب منطق السوق.

وزارة النقل: المشرف الفني بلا سلطة مالية

في المقابل، بقيت وزارة النقل هي الجهة “الوصية فنيًا”، لكنها كانت بلا سلطة مالية أو صلاحيات تنفيذية تُترجم رؤيتها إلى واقع.
فتعثرت المشروعات، وضاعت الأولويات، وصار الإشراف الفني رمزيًا أكثر منه فعّالًا، في ظل غياب التنسيق والمرجعية الموحدة.

النتيجة: تضارب في القرار وغياب المركز الواحد

هذا الازدواج القاتل أنتج تضاربًا مزمنًا في القرارات:
التعيينات بين توصية من النقل واعتماد من المالية،
العقود تمر بمسارين متوازيين،
والصيانة تُقر فنيًا وتُرفض ماليًا.
تاهت المسؤولية، وغابت المساءلة، وانتهى الأمر بأن أصبحت سودانير كيانًا بلا هوية مؤسسية واضحة.

الدرس الغائب: عودة النزعة التجارية

في تجارب الدول الناجحة، تم تجاوز مثل هذه الأزمات عبر إعادة النزعة التجارية (Commercialization) لشركات الطيران الوطنية، أي إدارة هذه الشركات وفق أسس السوق والانضباط المالي، مع استقلالية تشريعية ومالية تحميها من التقلبات السياسية والبيروقراطية.
ولذلك، فإن إصدار تشريعات داعمة لهذه الاستقلالية يُعد شرطًا جوهريًا، فهي “العكازة” التي تتكئ عليها شركات الطيران الوطنية لتنهض من جديد، وتنافس بفاعلية في سوق الطيران الإقليمي والدولي.

وسط العتمة… بريق من صدق وإصرار

ورغم قتامة المشهد، لا يمكن إغفال ما أبداه الكابتن مازن من صدقٍ وإصرارٍ في محاولاته لإحداث فرق داخل هذا الواقع المعقد.
تحرك بروح المهنة لا بثقل المناصب، وسعى لإحياء ثقافة الانضباط والتخطيط التجاري في بيئةٍ يغلب عليها التسييس والتنازع.
كانت جهوده صادقة، مؤمنة بأن إصلاح سودانير ممكن، إذا ما توفرت الإرادة واستُعيدت روح المؤسسة لا ولاءاتها.

الخروج من المأزق

الطريق نحو استعادة سودانير يبدأ من حسم هذا الازدواج القاتل، وإعادة تعريفها كشركة وطنية تجارية مستقلة، تُدار بعقلية السوق وتُراقب بمعايير الأداء لا بالأوامر الحكومية.
فلا يمكن أن تنهض شركة نصفها في وزارة المالية ونصفها في وزارة النقل.
إنها ببساطة شركة تقاسمتها جهتان… فماتت بين يديهما، ولا سبيل لإحيائها إلا بإعادة روحها التجارية التي آمن بها المخلصون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *