
i.imam@outlook.com
في خضم الحرب الضروس التي أشعلها بسوس السودان (الجنجويد)، فإن كانت البسوس بنت المنقذ التميمية، وهي شاعرة جاهلية، مشعلة الحرب بين قبيلة تغلب بن وائل وأحلافها ضد بني شيبان وأحلافها من قبيلة بكر بن وائل! فالجنجويد أضرموا نار الحرب في السودان بتمردهم على الجيش. وإن كان الموت في حرب البسوس، قتالاً قاصراً على الرجال المحاربين، فبسوس السودان (الجنجويد) لم يُقصروا حربهم وقتلهم على الجيش الذي تمردوا عليه، بل امتد عدوانهم على عموم أهل السودان، قتلاً وإيذاءً وسرقةً وغصباً واغتصاباً! إلا الذين نجوا بأنفسهم من التهلكة بالفرار إلى أرض الله الواسعة، هجراً للمال والعمران! وفرقوا أهل السودان أيادي سبأ، أي أنهم فرقوهم شذر مذر! وإن كان سبأ القرآن الكريم قد تمنوا ما لحق بهم من تفرق! بل أن أهل السودان نزل عليهم هذا البلاء بغتةً!
وكأن الجنجويد ومن والاهم في حربهم الضروس هذه، لم يستنصحوا بنصائح الشاعر العربي زُهير بن أبي سلمى في قوله:
وَمَا الحَرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ
وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالحَدِيثِ المُرَجَّمِ
مَتَى تَبْعَثُوهَا تَبْعَثُوهَا ذَمِيْمَةً
وَتَضْرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُوهَا فَتَضْرَمِ
ولم يعد الموت الذي هو حقٌ علينا يزلزل كيانات المبتلين به من السودانيين، فقد وطنوا أنفسهم على الاستعانة عليه بالصبر والصلاة، امتثالاً لقول الله تعالى: “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ”. وتطمئن قلوبهم -رغم المأساة- بذكر الله، تصديقاً لقوله سبحانه وتعالى: “الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ”. وفي غفلةٍ، بمشاغلهم في أمور الحياة الدنيا، ينسل من بينهم الأحباب والأقارب تباعاً، دون سابق إخطارٍ أو إنذارٍ. كما لم يعد تصنيف الموت مهماً لديهم في كثيرٍ من الأحايين! لإدراكهم اليقيني، إن كل نفسٍ ذائقةُ الموتِ، تأكيداً لقول الله تعالى: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ”.
فقد غيب الموتُ، الذي هو علينا حقٌ معلومٌ،
ومدركنا لا محالة، أينما كنا، سواء فررنا من هول حرب الجنجويد، كحُمرٍ مستنفرة فرت من قسورة، بحثاً عن الأمن والأمان، خارج الأوطان، أو ظللنا مرابطين داخل السودان! الأخ الصديق محمد طاهر ايلا رئيس الوزراء السوداني الأسبق في يوم الاثنين 6 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 في القاهرة، بعد معاناة مع القضاء المؤجل (المرض). فقد نعى إلينا الناعي، وشق علينا النبأ الأليم، أن ايلا أمير الشرق، وبُنيان القوم، في رحاب العلي القدير. وأن الحزن على رحيله لم يقتصر على أهليه، وعارفي فضله وإحسانه، بل امتد إلى أهل السودان كافة. وذكرني رحيله هذا بما حدث قبل قرابة ألف وأربع مائة سنة، حين مات قيس بن عاصم المنقري التميمي، فتحركت لموته قلوب القبائل، وأجهشت لفراقه أطراف العرب وأوساطها، وكتب عبدة بن الطبيب مرثيته التي اعتبرها الأدباء أروع مرثية في اللغة العربية، فقال فيه:
عليك سلام الله قيس بن عاصم
ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من أوليته منك منة
إذا زار عن غبٍ بلادك سلما
فما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكنه بنيان قوم تهدما
فأحسب أن رحيل ايلا عن دنياواتنا، بالنسبة لنا أهل الشرق خاصةً، بُنيان قوم تهدما، فهو قيس بن عاصم لكافة قبائل الشرق.
ومن المهم، أن نتذكر في كل حينٍ وحين، هاذم اللذات، ونكثر من ذكره، تصديقاً لما أخرجه ابن حبان في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “أكثروا ذكر هاذم اللذات، فما ذكره عبدٌ قط وهو في ضيقٍ، إلا وسعه عليه، ولا ذكره وهو في سعةٍ، إلا ضيقه عليه”. والهَيْذامُ هو الأكول. ولذا قال أبو إسماعيل الحُسين بن علي بن محمد بن عبد الصمد المعروف بالطغرائي:
ما أضيق العيش
لولا فُسحة الأمل
ولم يجد الشاعر العربي كعب بن زُهير بن أبي سُلمى، سوي تذكر الموت في ثنايا التماسه للعفو من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-حين قال:
كل ابن أُنثى وإن طالت سلامتُهُ
يوماً على آلةٍ حدباءَ محمولُ
عرفتُ الأخ الصديق محمد طاهر ايلا منذ أمدٍ بعيدٍ، وتوثقت علائقي به إبان عملي في صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية طوال ما يزيد عن ثلاثة عقود، إذ كان يأتي إلى لندن من حينٍ إلى حين، ونلتقي بصحبة صديقنا المشترك الأخ أمين عبد اللطيف رجل الأعمال المعروف في منزله بوسط لندن. وعندما عدتُ إلى السودان، وأسستُ صحيفة “التغيير”، توطدت هذه العلائق أكثر فأكثر، إذ أن كلينا من الشرق. وأحسبُ أننا كنا أحرص من الشاعر محمد سعد دياب الذي كان يبحث عن ما دلينته التي أمها سليلة أمهرا ووالدها من قلب أثينا، فصاح فيها النور الجيلاني: مادلينا الغرب أتى والشرق أتى! فكان ايلا يُبشر بالشرق، وزيراً ووالياً ورئيساً للوزراء، وأميراً.
كان الراحل محمد طاهر ايلا -يرحمه الله- تلقى تعليمه في جبيت الأولية والوسطى في سنكات والثانوي في بورتسودان، وتخرج في كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم في عام 1975. وعمل في هيئة الموانئ البحرية. ومن ثم واصل الدراسات العليا لنيل درجة الماجستير في جامعة كاردف بويلز في بريطانيا، ولما عاد من بريطانيا واصل عمله في هيئة الموانئ البحرية، حيثُ ترأس إدارة التخطيط بالهيئة. وعمل وزيراً ولائياً في الإقليم الشرقي في عهد الديمقراطيه الثالثة، وبعدها مديراً لهيئة الموانئ البحرية لعدة أعوام، ومن ثم وزيراً للسياحة في الحكومة الاتحادية، وبعدها وزيراً اتحادياً للطرق والكباري، وأبلى فيها بلاءً حسناً، ومن ثم تسنم منصب والي ولاية البحر الأحمر، وجعلها قِبلة السياح من السودانيين وغيرهم، وعُرفت بمهرجاناتها السنوية التي يؤمها عشرات الآلاف من داخل السودان وخارجه. وقد كنتُ بعد أوبتي إلى السودان من بريطانيا بعد سنين عدداً، من مرتاديها المنتظمين بحكم الانتماء المناطقي وصداقة ايلا. وكان يصطحبني في جولاته المسائية طوال فترة إقامتي في ضيافته ببورتسودان. وكنتُ أشفق عليه من كثرة التجوال والوقوف للتحية والسلام، وهتافات الجماهير وهي تُحي واليها وزعيمها ب”ياريس”، وكنا نشق بصعوبة تجمعات أماكن الترفيه، وملتقيات مرتادي شاطئ البحر الأحمر، يحادثهم ويسمع إليهم، إضافةً إلى تفقد المشاريع والمصانع والطرقات، والاطمئنان على النظافة والإنارة، وسقاية الأشجار والأزهار.
كان الراحل محمد طاهر ايلا يعي أهمية نشر التعليم في شرق السودان، لمواجهة الفقر والجوع والمرض، لذلكم حرص أيما حرص على تشجيع أولياء الأمور على انتظام أبنائهم وبناتهم في المدارس، وكان يحثهم على ذلك بشتى الطرق، منها تيسيير ملتزمات المدارس، وتقديم المساعدات الغذائية مقابل التعليم، فعليه ارتفعت نسبة التلاميذ المنتظمين في المدراس. كان في إنفاذ كثير من برامجه ومشاريعه يفكر خارج الصندوق. ولكن لأسباب عمداً لأُسميها حالياً، نُزع نزعاً من ولاية البحر الأحمر، رغم النجاحات، وكثرة الإنجازات، ليحط رحاله في ولاية الجزيرة، ليواجه صعوبات من نوعٍ آخر! ولكنه استطاع بحكمته وحنكته التغلب عليها! فكان بحقٍ وحقيقةٍ رجل دولة، وتنفيذي من الطراز الأول. وأكثر ما يُميز الأخ محمد طاهر ايلا أنه قوي الشخصية، ويأخذ الأمور بقوة أي بحكمة، وهو إداري تنفيذي من الدرجة الأولى، ويُعالج الأمور بتفكير خارج الصندوق. ولما ضاقت الإنقاذ، واستحكمت حلقاتها، بحثت عن الفرج، فما كان من رئيسها إلا أن يُسارع إلى الإتيان به رئيساً للوزراء، لكن بعد فوات الأوان! ولم تتحقق نبوءة الشاعر محمد سعد دياب في مادلينته من أن الشرق أتى!
كان الأخ الراحل محمد طاهر ايلا -يرحمه الله- يتمتع بسماتٍ طيبةٍ، و خصالٍ حميدةٍ، سمح الخصال، كثير الوصال، رفيع السجايا، باسم المحيا، لا تمل من مجالسته، ولا تضجر من مؤانسته، وتأنس بمعاشرته، عاش متواضعاً ورحل في هدوءٍ.
وكان طيب المعشر، وحسن المعاملة، وكان هميماً في تقديم العون لأهليه ومعارفه، وسمحاً لطيفاً في تعامله مع الناس أجمعين. ولم يكن يتوان في خدمة أهليه، فهو معهم في أفراحهم وأتراحهم. وكأنه يُنزل في نفسه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “المؤمن يألف ويُؤلف ولا خير فيمَنْ لا يألف ولا يُؤلف وخير الناس أنفعهم للناس”. وقول الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي:
الناسُ بالناسِ مادام الحياء بهم
والسعد لاشك تارات وهبات
وأفضل الناس ما بين الورى
رجل تقضى علي يده للناس حاجات
أخلص إلى أنني عندما شاهدتُ صور تشييع جثمان الراحل محمد طاهر ايلا إلى مثواه، وتلكم الحشود المحتشدة، تذكرتُ مقولة مروية عن الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الذهلي الشيباني التي رواها عنه الدارقطني بسندٍ صحيحٍ ، حيثُ قال: “سمعتُ أبا علي الصواف يقول: سمعتُ عبد الله بن أحمد، يقول: سمعتُ أبي رحمه الله، يقول: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز”
وختاماً، أسأل الله تعالى أن يتقبل الأخ الصديق محمد طاهر ايلا قبولاً طيباً حسناً، ويُنزل عليه شآبيب رحماته الواسعات، ويدثره بعميم المغفرات، ويكرم نزله، ويوسع مدخله، ويغسله بالماء والثلج والبرد، ونيقهِ من خطاياه كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس، ويعذه من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ويُلهم آله وذويه وأصدقاءه وزملاءه ومعارفه وعارفي فضله وإحسانه الصبر الجميل.
ولنتذاكر معاً في هذا الخصوص، قول أبي الطيب أحمد بن الحُسين، المعروف بالمتنبئ:
وما الموتُ إلا سَارِقُ دَقَّ شَخْصُهُ
يَصُولُ بِلاَ كَفَّ وَيَسْعَى بلا رِجْلِ
ولنستذكر في هذا الصدد، وفي هذا الموقف الصعيب الأليم، قول الله تعالى:
“وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ”.