المقالات

للحقيقة لسان .. رحمة عبدالمنعم يكتب: قطار المنظومة… نبض العودة

في بهو محطة رمسيس، حيث تصطف قضبان الحديد كما لو كانت شرايين تشق قلب المدينة، انبعث من بين هدير القطار ووجوه العائدين وهج لا تخطئه العين.. إنه الوطن حين يلوّح لأبنائه المهاجرين، والوطن حين يفتح ذراعيه بكرامة، بعد غيابٍ طال تحت سماء الشتات.

هناك، في القاهرة، حيث اجتمع الناس من كل فجٍ عميق، لم تكن رحلة القطار الثاني مجرد نقلة لوجستية أو إجراء تنظيمي، بل كانت لحظة إنسانية عظيمة تنضح بالمعاني وتفيض بالدلالات، تحت لافتة “العودة الطوعية” التي تتبناها منظومة الصناعات الدفاعية، انطلقت القاطرة من جديد، تجر خلفها ألف قلب نابض بالحنين، وألف قصة تمشي على قدمين، تعبر من محطة اللجوء إلى رصيف الوطن.

وحين نقول “منظومة الصناعات”، فإننا لا نقصد مجرد مؤسسة عسكرية ذات طابع إنتاجي، بل كياناً وطنيًاً يمشي على عكاز الصبر، ويتّكئ على إرادة صلبة تشبه جبال السودان، فمنذ الباص الأول وحتى الرحلة رقم 210، ظلّت هذه المنظومة تكتب في صمت، وتفعل في إخلاص، وتبني في زمن الهدم جسوراً من العودة الكريمة، تحت إشراف مباشر من الرجل الذي يضبط الزمن على دقة الإنجاز، الفريق أول مهندس ميرغني إدريس، مدير عام المنظومة، الذي لا يحب الظهور، لكنه حاضر في كل التفاصيل، في كل سطر، في كل دعاء يهمس به العائدون في قطارات الرجوع.

وبين سواعد العائدين وهم يصعدون القطار، كانت هناك وجوهٌ لا تُنسى، نجوم الفن والرياضة، من السودان ومصر، احتشدوا في وداع إخوتهم، لا يحملون المايكروفونات ولا الأضواء، بل قلوبًا عامرة بالمحبة والانتماء، وقف الفنان محمد رياض والنجم الكروي هيثم مصطفى (البرنس)وغيرهم، يشهدون لحظة تختلط فيها الدموع بالابتسامات، ويصبح الوطن هو العنوان الوحيد الممكن.

ولا يمكن لمنصف أن يتجاوز في هذا المشهد الإنساني الملحمي، اسماً سكن قلوب العائدين دون أن تطلب ذلك، المهندسة أميمة عبد الله، مديرة إدارة المسؤولية المجتمعية، التي سهرت حين نام الناس، وجاهدت حين تقاعس الكثيرون، تتابع أسماء المسجلين، تتفقد الباصات، تقف في ممرات التفويج كأمٍّ ترعى أبناءها، وتبكي إذا تأخرت رحلة أو تعطلت وسيلة، وكأنها هي من تعود، وهي من تفارق، وهي من تنتظر الغد على رصيف الخرطوم.

أما الدكتور نصر الدين حسن، مدير عام الشركة السودانية المصرية، فقد ظل حارساً نبيلاً لهذه المهمة الصعبة، يتابع الإجراءات بصرامة العارف، ويحفظ التوازن الدقيق بين دفء التعاون المصري وروح المبادرة السودانية، متجاوزًا كل تعقيدات الحدود والبيروقراطيا من أجل أن يصل الناس إلى أهلهم دون مذلة أو عناء.

وبينما يحتفل العائدون بهذا المشروع الإنساني النبيل، كان من المؤسف أن تظهر جهات تحاول أن تنسب الفضل لنفسها، أو أن تدّعي شراكة لم تكن حاضرة فيها لا قولاً ولا فعلاً، لكننا، نحن الذين كنّا نتابع هذه الرحلات من الباص الأول وحتى الباص رقم 210، نعلم جيداً من كان هناك، ومن كان غائباً، التاريخ لا يدوّن الشعارات، بل الأفعال.

مشروع العودة الطوعية، الذي تمضي به منظومة الصناعات كمن يزرع شجرة في أرضٍ محترقة، هو اليوم إحدى أنصع صفحات الوفاء لهذا الشعب، وهو ليس فقط عملية تفويج، بل استعادة للثقة، وبناء لجسرٍ رملي متين بين الوطن وأبنائه.

في النهاية، ها هو القطار يمضي، لا في اتجاه الجنوب فقط، بل نحو الأمل، نحو البيت، نحو الرغيف الذي لم تفقد رائحته في الذاكرة، نحو الدروب التي لا تسأل عن الانتماء، لأنها تعرف أبناءها حين يعودون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *