المقالات

شيء للوطن . م.صلاح غريبة يكتب : العلاقات الصفرية.. وصدمة “حسكا” الأخيرة

Ghariba2013@gmail.com

قد تمر الحوادث الأليمة كمرور الكرام، لكن بعضها يتوقف عنده الزمن ليصفعنا بحقيقة صادمة لا نستطيع تجاهلها. خبر وفاة الإذاعي السوداني محمد محمود “حسكا” في شقته وحيدًا في منطقة فيصل بالجيزة، وعدم اكتشاف الأمر إلا بعد أيام من انقطاع التواصل، ليس مجرد قصة وفاة فردية. إنه جرس إنذار يهز أركان مفهوم “الزمالة” و”العلاقة القوية” في مجتمعنا الإعلامي خاصة، وفي سياق الاغتراب القسري عامة.
لقد كشفت الأزمة الراهنة التي أدت إلى هجرة عدد كبير من الكفاءات والكوادر السودانية، بما في ذلك الإعلاميين، إلى مصر، الوجه الآخر لتلك العلاقات التي كنا نحسبها متينة كالصخر. فكما لخصت إحدى الزميلات بمرارة: “مجتمعنا الإعلامي علاقات صفر كبير إلا بعض العلاقات… أنا حصيلتي صفرية.. إلا عدد قليل لا يتجاوز العشرة أصابع.” هذا الاعتراف المرير يجسد حجم الفجوة التي خلقتها الحرب والنزوح، حيث تبخرت عشرة العمر ودفء الزمالة بمجرد أن تشتت الأفراد واختلفت مساراتهم.
إن تكرار سيناريو العثور على جثة زميل بعد أيام من وفاته، يلقي بظلال ثقيلة ليس فقط على ضعف التواصل، بل على النمط الجديد من العزلة الذي يتبناه البعض ويُفرض على آخرين. قد يرجع الأمر إلى إصرار البعض على السكن منفردًا، بعيدًا عن تجمعات الأصدقاء أو الأهل، وهو خيار شخصي قد يكون نابعًا من ظروف مادية أو نفسية. لكنه يتحول في زمن الأزمات إلى مخاطرة قاتلة. ففي غياب شبكة الدعم القريبة، يصبح انقطاع التواصل لمدة ثلاثة أيام كافيًا لتحويل حدث محزن إلى مأساة مزدوجة؛ مأساة الموت وحيدًا، ومأساة الاكتشاف المتأخر.
هنا يكمن السؤال الأهم: ماذا فعلت الحرب بنا؟ لم تفرقنا جغرافيًا فحسب، بل بدأت تفتت نسيج العلاقات الإنسانية والمهنية. ففي ظل الضغوط الهائلة للنزوح والبحث عن حياة جديدة، قد يُصبح الدعم المعنوي والاطمئنان اليومي على حال الزملاء رفاهية منسية. لكن تجربة “حسكا” تُذكرنا بأن العلاقات ليست فقط عن الدعم المادي، بل هي بالأساس عن “الدعم المعنوي يجسد معنى العلاقة القوية المبنية على عشرة العمر والمواقف.”
إن تعدد التنظيمات الجامعة للإعلاميين والصحفيين لا يكفي بحد ذاته لضمان التواصل الحقيقي والفعال. فالانتماء إلى كيان لا يعني بالضرورة وجود رابط إنساني عميق. وفاة الإذاعي القدير، الذي ترك “بصمة واضحة في الوسط الإعلامي السوداني”، باتت درسًا قاسيًا ومؤلمًا. لقد كشفت أن العلاقة المهنية في أحسن الأحوال قد تكون “علاقة صفرية” لا تصمد أمام أول اختبار حقيقي للشدائد.
في زمن الهجرة والبعد، يصبح الاطمئنان اليومي على من نعرفهم ليس مجرد واجب أخلاقي، بل هو خط الدفاع الأخير ضد الانعزال القاتل. رحم الله الفقيد محمد محمود “حسكا”، ولتكن وفاته صرخة توقظ فينا ضمير الزمالة المنسي، لنتذكر أننا جميعًا في مركب واحد، وأن علاقاتنا الإنسانية هي الثروة الحقيقية التي لا يجب أن تتحول إلى صفر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *