المقالات

شيء للوطن.. م.صلاح غريبة يكتب: قيادة الأسود أم زعامة النعام؟ دروس في القوة والعمل الجماعي

Ghariba2013@gmail.com

لطالما ترددت الأمثال والحكم لتضيء لنا دروب الحياة، ومن بينها قول مأثور ذو عمق بالغ: “أن تكون فردًا في جماعة الأسود خير من أن تكون قائدًا على مجموعة النعام”. هذا المثل ليس مجرد كلمات تُقال، بل هو عبرة تُلقننا أن القيادة الحقيقية تكمن في القوة والجودة، لا في مجرد التسلط أو امتلاك المنصب. إنه يشدد على أن الأساس في أي عمل قوي ومؤثر هو أن يكون جماعيًا ومتضافرًا، وهي مفاهيم جوهرية ينبغي أن نغرسها في نفوس أبنائنا منذ الصغر، لتشكل أساسًا متينًا لشخصياتهم وعلاقاتهم المستقبلية.
القيادة ليست عنوانًا يُمنح، بل هي صفة تُكتسب. هي القدرة على إلهام الآخرين، وتوجيه الجهود نحو هدف مشترك، وتحمل المسؤولية في السراء والضراء. القائد الحقيقي هو من يمتلك قوة التأثير الإيجابي، سواء كان في طليعة الصفوف أو جزءًا من النسيج الجماعي. فأن تكون فردًا في جماعة “الأسود” يعني أنك جزء من كيان قوي، متماسك، يسير بخطى ثابتة نحو أهدافه، حيث يتشارك الجميع في القوة والالتزام. على النقيض، قيادة “النعام” قد تعني السير على رأس مجموعة تفتقر إلى القوة الحقيقية، أو تُظهر ميلاً للفرار عند الشدائد، بغض النظر عن المنصب الذي يشغله القائد.
يعلمنا المثل أيضًا أن العمل الجماعي هو القوة الحقيقية. عندما يتكاتف الأفراد ذوو الكفاءة والهمة، تتضاعف الإنجازات وتتحقق الأهداف التي تبدو مستحيلة للفرد الواحد. هذه هي روح “جماعة الأسود”، حيث يسود التآزر والتكامل، ويُقدم كل فرد أفضل ما لديه لخدمة الصالح العام. هذا المفهوم يدعو إلى تجاوز الأنانية والفردية المفرطة، والتركيز على بناء فرق عمل متناغمة، قادرة على مواجهة التحديات وتحقيق النجاحات المتتالية.
لا يمكن فصل هذه المفاهيم النظرية عن واقعنا المعاصر، فكثيرًا ما تتجسد الحكمة في الأحداث اليومية. ولعل ما حدث مؤخرًا من تكوين مجلس تنفيذي للجالية السودانية في مصر، وما صاحب ذلك من ملابسات وشائعات حول وجود “مؤامرات”، يضع هذه المفاهيم تحت المقياس.
إن تكوين مثل هذا المجلس، في ظل الظروف الراهنة التي يمر بها السودان، كان خطوة ضرورية ومهمة لتوحيد جهود الجالية وتنظيم شؤونها. فالمفترض أن يكون هذا المجلس بمثابة “جماعة الأسود” التي تعمل بجد واجتهاد لخدمة أبناء جلدتها، والتخفيف من معاناتهم، وتقديم الدعم اللازم لهم. وهو ما يتطلب من كل فرد في هذا المجلس، سواء كان قائدًا أو عضوًا، أن يتحلى بروح العمل الجماعي، ونكران الذات، ووضع مصلحة الجالية فوق كل اعتبار.
ولكن، عندما تتسرب أنباء عن وجود “مؤامرات” أو صراعات داخلية تحيط بتشكيل هذا المجلس، فإن ذلك يطرح تساؤلات جدية حول مدى تطبيق مبادئ “قيادة الأسود” و”العمل الجماعي”. فمثل هذه الشائعات، إن صحت، تهدد بتقويض الثقة، وتفتيت الجهود، وتحويل ما يجب أن يكون “جماعة أسود” قوية إلى “مجموعة نعام” مشتتة، تبحث عن مصالح فردية أو فئوية، بدلًا من التركيز على الهدف الأسمى وهو خدمة الجالية.
إن القيادة الحقيقية في مثل هذه الظروف الصعبة تقتضي الشفافية والوضوح والمصارحة، والبعد عن التكتلات والمؤامرات. فالقوة تكمن في الوحدة والتكاتف، لا في الانقسام والتناحر. وعلى كل من يتحمل مسؤولية في هذا المجلس أن يتذكر أن دوره ليس السيطرة أو التسلط، بل هو خدمة وقيادة بالقدوة، تمامًا كما يقود الأسد قطيعه بقوته وحكمته وشجاعته، لا بفرض سطوته.
إن مسؤوليتنا كآباء وأمهات تتجاوز توفير المأكل والمشرب لأبنائنا. يجب أن نغرس فيهم هذه المفاهيم العميقة: أن القوة الحقيقية تكمن في الجوهر لا في المظهر، وفي الفعل لا في مجرد الكلمات. يجب أن نُعلمهم أن يكونوا أفرادًا فاعلين في أي جماعة ينتمون إليها، وأن يساهموا بصدق في بناء قوة هذه الجماعة.
علموا أبناءكم أن يكونوا جزءًا من “جماعة الأسود”؛ أن يمتلكوا الشجاعة والنزاهة والقدرة على العمل بجد ضمن فريق. غرسوا فيهم حب التعاون والتآزر، ونبذ الأنانية والصراع. عرّفوهم على أن القيادة ليست مجرد منصب، بل هي قدرة على إحداث فرق إيجابي، سواء كانوا في المقدمة أو في الخلف. فالمستقبل الذي نبنيه لأبنائنا يعتمد على القيم التي نزرعها فيهم اليوم.
ففي النهاية، لن ترتقي الأسر والمجتمعات والدول إلا بقادة حقيقيين يؤمنون بالعمل الجماعي، وقوة الأفراد المتحدين، ويقدمون مصلحة الجماعة على المصالح الشخصية، تمامًا كما أن تكون فردًا في جماعة الأسود خير ألف مرة من أن تكون قائدًا على مجموعة النعام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *