
لم يكن مفاجئًا أن تعلن قوى متحالفة مع قوات الدعم السريع المتمردة تشكيل ما أسمته بـ”الحكومة الموازية”، فالمسار الذي سلكته هذه الأطراف منذ اليوم الأول للحرب لم يكن سوى طريقٍ مباشر نحو تمزيق الدولة السودانية، ومحاولة اغتصاب السلطة بالقوة عقب هزيمتها، وإن ارتدت عباءة مدنية.
تسمية قائد الميليشيا محمد حمدان دقلو “حميدتي” رئيسًا لما يسمى “المجلس الرئاسي”، وعبد العزيز الحلو نائبًا له، ومحمد حسن التعايشي رئيسًا للوزراء، لا تعبّر عن رؤية وطنية بقدر ما تكشف تحالفًا يجمع بين أطراف شاركت في الحرب، وتسببت بشكل مباشر في معاناة ملايين السودانيين، وتشريدهم، وتدمير البنى التحتية، وغير ذلك من الخراب، مبنًى ومعنًى.
لقد بات واضحًا أن هذه الخطوة ليست أكثر من محاولة لشرعنة سلطة الأمر الواقع في الخرطوم وبعض مدن الغرب، وتحصين قادة الميليشيا من المساءلة، عبر واجهة مدنية مُصطنعة، تضم شخصيات بعضها كان جزءًا من الثورة، ثم ارتد عليها في لحظة فاصلة بعد اختطافها، وكان لهم القدح المعلى فيما نحن فيه اليوم.
أن يجتمع حميدتي والحلو والتعايشي في جسمٍ واحد، فذلك ليس تقاطع برامج أو توافقًا وطنيًا، بل تقاطع مصالح ظرفية على حساب وحدة البلاد واستقرارها. يجمعهم فقط السلاح، والنزعة إلى تقويض السلطة الانتقالية في بورتسودان، وزرع الفوضى السياسية في جسد الوطن المنهك.
هؤلاء الذين يحاولون اليوم الحديث عن “حل سياسي”، هم ذاتهم الذين خذلوا الشعب في أوقات السلم، وها هم الآن يسعون للعودة إلى المشهد من باب الدم والميليشيا، غير آبهين بمصير شعبٍ كامل، قضوا عليه وذبحوه على رؤوس الأشهاد دون أن يرف لهم جفن، ودون أن يحاكموا دوليًا وفقًا للأعراف والمواثيق. ولا غرابة، فمن أمن العقاب أساء الأدب.
والمعروف حتى لدى راعي الضأن في الخلاء، أن الهدف الأساسي من إعلان هذه الحكومة هو شرعنة سلطات الدعم السريع في المناطق التي تسيطر عليها، فضلًا عن التشويش على الحكومة الانتقالية الشرعية في بورتسودان. والأهم من ذلك، تمرير أجندة لتقسيم البلاد سياسيًا وجهويًا، وتحويل السودان إلى “كيانات إدارية متنازعة”، بدلاً من دولة موحدة ذات سيادة.
المجتمع الدولي لم ينتظر طويلًا ليرفض هذا المسار. الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج – ضمن بيان “الترويكا” – والاتحاد الإفريقي و”إيقاد”، بل وحتى الأمم المتحدة ودول عربية، أكدوا جميعًا أن أي محاولة لتشكيل أجسام بديلة أو موازية خارج إطار التوافق السوداني، مرفوضة تمامًا.
صحيح أن هذا جاء عبر بيانات شدد بعضها على الرفض الكامل، لكن ذلك لا يعني أن جهات خارجية غير معلنة لم تلعب دورًا في دفع هذا المسار، وهو ما أدى إلى بلوغه مرحلة الإعلان – وإن عبر الفضاء الإلكتروني – لحكومة لا تملك اعترافًا شرعيًا ولا غطاءً دوليًا.
العالم يعرف جيدًا من يقف خلف الحرب، ومن يستخدم الغطاء السياسي للتوسع العسكري، ومن يتاجر بالشعارات لتقسيم السودان إلى أقاليم وأجندات. وصحيح أن هناك من تواطأ بصمت، أو بالدعم غير المباشر، لكننا مطمئنون: من فشلوا عسكريًا في تمزيق السودان، لن ينجحوا في ذلك سياسيًا، ولو تعاونت معهم شياطين الإنس والجن.
الرأي العام السوداني ليس غائبًا. الناس تعرف من دمّر العاصمة وبعض مدن السودان وأقاليمه، ومن أباد قرى دارفور، ومن ساهم في تجويع ملايين المدنيين. محاولة تلميع هذه الأسماء اليوم في ثوب حكومي لا تنطلي على أحد. بل تثير غضبًا واسعًا، وتُذكّر الشعب بأيام حرب الميليشيات والفساد ومحاولات التحكم بالقوة.
كيف لمن أشعل الحرب أن يُعهد إليه بإطفائها؟ وكيف لمن تلطخت يداه بالدماء أن يُكلّف بحماية المدنيين؟
لا يمكن للسودان أن يستعيد عافيته، طالما هناك من يُصرّ على فرض الإرادة بالقوة، وتغليف مشروع الحرب بورقٍ مدني رخيص. “الحكومة الموازية” ليست سوى مشروع فتنة جديدة، مرفوضة من الداخل والخارج، ومحكوم عليها بالفشل.
وإذا لم تتوقف الحرب، وإذا لم تُستعد هيبة الدولة على كامل التراب الوطني، وإذا لم تُحاسَب كل الأطراف المتورطة في هذه الكارثة، فلن تقوم للسودان قائمة، سواء بحكومة موازية أو أصلية.