المقالات

شيء للوطن.. م.صلاح غريبة يكتب :الانسجام مع الطبيعة والتنمية المستدامة – رؤية من أجل السودان المتعافي

Ghariba2013@gmail.com

في كل عام، ومع حلول الثاني والعشرين من مايو، تتجدد دعوة العالم للاحتفال باليوم العالمي للتنوع البيولوجي، هذا اليوم الذي يمثل وقفة تأملية وتذكيرًا بأهمية الثراء البيولوجي لكوكبنا. يأتي احتفال هذا العام تحت شعار “الانسجام مع الطبيعة والتنمية المستدامة”، وهو شعار يتردد صداه بقوة في أرجاء العالم، ويحمل دلالات عميقة، خاصة بالنسبة لدولة مثل السودان، التي تتطلع إلى الخروج من براثن الصراع والدخول في مرحلة التعافي والبناء.
إن التنوع البيولوجي ليس مجرد مصطلح علمي معقد، بل هو نسيج الحياة الذي يربطنا جميعًا، من أصغر الكائنات الحية الدقيقة إلى أكبر الثدييات، ومن الغابات المطيرة الكثيفة إلى الصحاري الشاسعة. إنه يمثل الأساس الذي تقوم عليه أنظمتنا البيئية، ويوفر لنا الغذاء والماء والهواء النظيف والأدوية والمواد الخام، بل ويساهم في تنظيم المناخ وتلقيح المحاصيل. إن الانسجام مع الطبيعة لا يعني فقط التعايش السلمي معها، بل يعني فهم ديناميكياتها واحترام حدودها والعمل على صيانتها وتعزيزها لضمان استمراريتها. أما التنمية المستدامة، فهي السبيل لتحقيق الرخاء البشري دون استنزاف الموارد الطبيعية أو الإضرار بالبيئة، وهي مبدأ أساسي لضمان مستقبل الأجيال القادمة.
يمتلك السودان، بفضل موقعه الجغرافي الفريد وتنوعه المناخي، ثروة هائلة من التنوع البيولوجي. من الصحاري القاحلة في الشمال، مروراً بالسهول الرعوية الخصبة، وصولاً إلى غابات السافانا في الجنوب الشرقي والغربي، والأنظمة النهرية الواسعة التي يمثلها النيل وروافده. هذا التنوع الجغرافي والبيئي أدى إلى وجود تنوع بيولوجي فريد يشمل أنواعاً نباتية وحيوانية مستوطنة وغير مستوطنة، والعديد من النظم البيئية الهامة، مثل الأراضي الرطبة والمناطق الجافة والجبال.
ولكن، وكما هو الحال في العديد من مناطق العالم، تعرض هذا التنوع البيولوجي في السودان لضغوط هائلة، تفاقمت بشكل كبير بفعل عقود من الصراعات والنزاعات المسلحة، بالإضافة إلى التحديات البيئية العالمية مثل تغير المناخ والتصحر. فقد أدت النزاعات إلى تشريد السكان، وتدمير الموائل الطبيعية، والصيد الجائر، وقطع الأشجار غير المنظم، وتلوث المياه والتربة، مما أثر بشكل كبير على الأنواع المحلية وتسبب في انقراض بعضها أو تهديد وجود البعض الآخر. كما أدت الصراعات إلى إهمال برامج الحماية البيئية وضعف القدرات المؤسسية، مما فاقم من حدة المشكلة.
بعد انتهاء الحرب في السودان والدخول في فترة التعافي، تبرز الحاجة الملحة إلى إيلاء اهتمام خاص لتعزيز وحماية التنوع البيولوجي كجزء لا يتجزأ من عملية إعادة البناء والتنمية المستدامة. إن هذه الفترة تمثل فرصة فريدة لإعادة تقييم الأولويات ووضع استراتيجيات شاملة لضمان استدامة الموارد الطبيعية واستعادة النظم البيئية المتضررة. ولتحقيق ذلك، يمكن اتباع خطوات منها إعادة بناء القدرات المؤسسية والقانونية بتفعيل وتعزيز المؤسسات المعنية بالبيئة والتنوع البيولوجي، ويجب إعادة تأهيل وتفعيل الوزارات والهيئات والمراكز البحثية المسؤولة عن حماية البيئة والتنوع البيولوجي، وتزويدها بالموارد البشرية والمالية والتقنية اللازمة، بجانب مراجعة وتحديث التشريعات البيئية بتطوير قوانين وأنظمة بيئية حديثة وشاملة تتناسب مع التحديات الحالية والمستقبلية، وتفرض عقوبات صارمة على المخالفين. يجب أن تشمل هذه التشريعات حماية الأنواع المهددة بالانقراض، وتنظيم الصيد، وإدارة الغابات، وحماية الموارد المائية، بجانب الانضمام إلى الاتفاقيات والمعاهدات الدولية بالالتزام بالاتفاقيات والمعاهدات الدولية ذات الصلة بالتنوع البيولوجي، مثل اتفاقية التنوع البيولوجي (CBD)، واتفاقية التجارة الدولية بالأنواع المهددة بالانقراض (CITES)، وتنفيذ التزاماتها الوطنية.
تحديد وتصنيف المناطق ذات الأهمية البيولوجية ومسح شامل للمناطق البيئية باجراء مسوحات شاملة لتقييم الوضع الحالي للتنوع البيولوجي في مختلف المناطق السودانية، وتحديد الأنواع المهددة بالانقراض والموائل المتضررة، وإنشاء وتوسيع المناطق المحمية بتحديد وإنشاء مناطق محمية جديدة، سواء كانت وطنية أو إقليمية، أو توسيع المناطق المحمية القائمة، مع ضمان فعاليتها في الحماية والإدارة. يجب أن تتضمن هذه المناطق أنواعاً مختلفة من النظم البيئية (غابات، أراضي رطبة، مناطق جبلية، صحاري)، وإدارة فعالة للمناطق المحمية بوضع خطط إدارة مستدامة للمناطق المحمية، تشمل المراقبة الدورية، ومكافحة الصيد غير المشروع، وتطوير البنية التحتية اللازمة.
برامج إعادة التأهيل البيئي والاستدامة تشمل إعادة تشجير المناطق المتدهورة وإطلاق حملات واسعة لإعادة تشجير الغابات والمناطق المتدهورة، مع التركيز على الأنواع النباتية المحلية والمقاومة للجفاف، وإدارة الموارد المائية بتطوير استراتيجيات مستدامة لإدارة المياه، بما في ذلك الحفاظ على الأراضي الرطبة، ومعالجة المياه المستعملة، وتشجيع تقنيات الري الحديثة، ومكافحة التصحر وتدهور الأراضي بتنفيذ برامج لمكافحة التصحر وتدهور الأراضي، مثل زراعة مصدات الرياح، وتثبيت الكثبان الرملية، وتعزيز الممارسات الزراعية المستدامة. ودعم الزراعة المستدامة والصديقة للبيئة بتشجيع الممارسات الزراعية التي تحافظ على التنوع البيولوجي، مثل الزراعة العضوية، وتدوير المحاصيل، واستخدام المبيدات الحيوية بدلاً من الكيميائية.
التوعية وبناء الشراكات بإطلاق حملات توعية واسعة النطاق وحملات توعية عامة على مستوى الوطن بأهمية التنوع البيولوجي ودوره في حياة الإنسان، وكيفية المساهمة في حمايته. يجب أن تستهدف هذه الحملات جميع شرائح المجتمع، وخاصة الشباب والطلاب، وإشراك المجتمعات المحلية في جهود الحفاظ على التنوع البيولوجي، وتوفير الحوافز لهم لتبني ممارسات صديقة للبيئة. يمكن تدريبهم على إدارة الموارد الطبيعية والمشاركة في برامج الحماية، وبناء شراكات قوية بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني والمنظمات الدولية والمؤسسات البحثية لتبادل الخبرات وتوفير الدعم الفني والمالي اللازم لجهود الحفاظ على التنوع البيولوجي.
دمج التنوع البيولوجي في خطط التنمية بالتقييم البيئي الاستراتيجي ودمج اعتبارات التنوع البيولوجي في جميع خطط التنمية الوطنية والإقليمية والمحلية، وضمان إجراء تقييمات بيئية استراتيجية للمشاريع الكبرى قبل تنفيذها، وتشجيع الاستثمار في “الاقتصاد الأخضر” الذي يعتمد على الممارسات المستدامة والصديقة للبيئة، مما يخلق فرص عمل ويساهم في التنمية الاقتصادية مع الحفاظ على التنوع البيولوجي، وتطوير السياحة البيئية كأداة لتعزيز الوعي بالتنوع البيولوجي وتوفير مصادر دخل للمجتمعات المحلية، مع ضمان استدامتها وعدم الإضرار بالبيئة.
إن الانسجام مع الطبيعة والتنمية المستدامة ليسا مجرد شعار، بل هما ضرورة حتمية لمستقبل السودان بعد الحرب. إن الاهتمام بالتنوع البيولوجي في هذه المرحلة الحساسة ليس رفاهية، بل هو استثمار طويل الأمد في رخاء الشعب السوداني وصحته ورفاهيته. فمن خلال الحفاظ على هذا الكنز الطبيعي، يمكن للسودان أن يعيد بناء نفسه على أسس قوية ومستدامة، ويحقق توازناً بين التنمية الاقتصادية والحفاظ على بيئته الغنية، ليصبح نموذجاً يحتذى به في التعافي والسلام والازدهار البيئي. إنها مسؤولية جماعية تتطلب تضافر الجهود من الجميع، حكومة ومجتمع مدني وأفراد، لضمان مستقبل مشرق للأجيال القادمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *