المقالات

هناك فرق – منى أبوزيد تكتب : هل تبقى دارفور..!

*”التاريخ في السودان لا يُعيد نفسه، هو فقط لا يعرف كيف يتوقف”.. الكاتبة..!

حينما دوى صوت إطلاق الرصاص في أولى ساعات هذه الحرب قبل عامين، كانت أمي شبه نائمة كعادتها في الساعة الأخيرة من جلسة غسيل الكلى، وكنت كعادتي أجلس بجانبها وأحاول تبديد الانتظار بالقراءة أو المشاهدة على هاتفي المحمول..!

وكان السيد “بدر خلعة” قد فرغ لتوه من الإعلان عن مطعم شعبي، قبل أن يشير نحو الكاميرا بمفتاح سيارته وهو يحدثنا عن روعة صوت “قونة” صاعدة كان في ضيافتها عبر المقطع الذي يليه..!

وهكذا انتقلتُ يومها وفي دقائق معدودات من التسلية بمشاهدة مقاطع “بدر خلعة” إلى “الخلعة الجد” التي أدخلتها في نفوسنا مفاجأة اندلاع هذه الحرب..!

اندلعت حرب ١٥ أبريل – التي نشهد اليوم نهاية عامها الثاني – بضربة خاطفة، لكنها لم تكن مفاجِئة تماماً، كانت التراكمات كثيرة، والإنذارات كانت أوضح من أن تُهمل..!

جاء “حميدتي” من الهامش، لا ليحتج، أو ليتظلم، بل ليفرض علينا واقعًا جديداً لا يبحث فيه عن الإنصاف بل عن السلطة التي يعلم أن طريقه إليها لا يمر عبر التحالف أو الاقتراع ، بل عبر فوهة البندقية..!

في هذه الحرب تهاوت كل الحدود وتكسّرت كل الأوهام، وهم مركزٍ قادر على حماية نفسه، ووهم هامشٍ مظلوم يملك الحق الأخلاقي الكامل في مدافعة التهميش على طريقته..!

وبينما نالت الخرطوم نصيبها من الدمار والقتل والاغتصاب والنزوح والتشريد، كانت دارفور تُقصف وتُجتث من جذورها، وارتُكبت فيها فظائع لم تعد قابلة للستر أو النسيان، وانبثق السؤال الذي يردده معظم السودانيين “هل تظل دارفور جزءاً من هذا السودان بعد هذه الحرب”..!

الإجابة معقّدة، فدارفور ليست مجرد إقليم، بل عقدة مركزية في الجغرافيا السياسية والأخلاقية للسودان، وبقاؤها عضواً رئيساً في جسد الدولة السودانية يتوقف – لا على اتفاقيات السلام فحسب، بل – على اعتراف مركزي حقيقي بكرامة الإنسان فيها، وعلى محاسبة عادلة، لا انتقامية، على كل ما ارتُكب من فظائع..!

إن استخدام خطاب التهميش والتلويح بتاريخ السلطة المركزية في خذلان الإقليم كمبرر لجرائم التهجير والاستيطان والتجريف الديموغرافي ومحاولة إعادة تشكيل الوطن بالقوة، شر مستطير يزرع الآن في تربة دارفور نفسها بذور انفصالها المستقبلي..!

لا تهميش يعفي أحداً من ارتكاب الجرائم، ولا ظلم يبرر العنف، وإذا كنا نرجو أن تُخمد نيران هذه الحرب وأن لا تعود بعد سنوات أو عقود من الزمان، فيجب علينا أن نتوقف عن محاكاة الماضي كوسيلة للهروب من الحاضر، ودورنا جميعًا أن نواجه إشكالات الواقع بمسؤولية وشجاعة..!

لم تكن هذه الحرب نتيجة تهميش فحسب، ولا كان الهامش فيها بريئاً من الدم، فما حدث في دارفور لا تبرره الجغرافيا ولا تزيله شكاوى الإقصاء، وبعد الفساد الذي عاثته فينا مشاريع خارجية بأيدي محلية، السودان كله جريح..!

وحتى لا تعود الحرب أو نعود إليها علينا أن نكفّ عن التعامل مع الخرطوم كغنيمة، ومع دارفور كساحة للتصفية. لا بد من عقد اجتماعي جديد في وطن لا يقيس عزة أهله بالتصنيف القبلي أو الموقع الجغرافي، ولا يُصحَّح حماقات ساسته وأخطاء قادته بالقنابل والرصاص..!

كل رصاصة أُطلقت على الخرطوم بدأت كصمتٍ طويل تجاه دارفور، ودارفور الآن لا تنتظر منّا تعاطفًا، بل وعدًا بأن لا نخذلها مرتين..!

ليس في هذا الوطن بريء تماماً ولا مذنب وحده، نحن جميعاً مسؤولون عن أن لا نُسلمه للحروب مرة أخرى، فما من حرب تنتهي حقًاً إن لم ندفن أسبابها قبل قتلاها!.

munaabuzaid2@gmail.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *