المقالات

إبراهيم أحمد الحسن يكتب : في دار يتيم تربيع !

وحدهم الذين لا يحنّون إلى (خبز أمّهم). ووحدهم الذين لم ينشدوا مع محمود درويش: “أحنُّ إلى خبز أمي/ وقهوة أمي/ ولمسة أمي/ وتكبر فيَ الطفولةُ/ يوماً على صدر يومِ/ وأعشقُ عمري لأنّي/ إذا مُتُّ/ أخجل من دمع أمي”!
ووحدهم الذين لم تجرّب ذاكرتهم البضة، اختبار طعم الأمومة بأن: “خُذيني إذا عدتُ يوماً/ وشاحاً لهدبك/ وشُدّي وثاقي بخصلة شَعرٍ/ بخيطٍ يلوّح في ذيل ثوبك”.
وحدهم لم يسمع الفنانة مُنى الخير تغنّي من أشعار الراحل سعد الدين إبراهيم: “أبوي شِعبتنا روح آمالنا ضوّ البيت/ ضراعو الخدرا ساريتنا/ نقيّل وفي ظلالا نبِيت”.
وحدهم لم يتذوقوا خبز أمّهم ولا لمة شاي الصباح عندها ، ولا ناموا على صدرها ولا شعروا بحماية ضراع (ضوّ البيت) الخضراء، أبداً.
ببساطة، لأنهم لا يعرفون طريقاً إلى أمّهاتهم ولا إلى آبائهم.
فقدان السند الأسري، مشكلة إنسانية عامة، ليست حصراً على مجتمع بعينه، وتتداخل في خلقها عوامل كثيرة، منها الاقتصادية والأخلاقية والحروب والكوارث الطبيعية وغيرها. ولأنه “كفي بالمرء أثماً، أن يضيّع من يعول”، كما حذّرنا سيد الخلق أجمعين، وجب علينا توفير السند لفاقديه من الأطفال، طمعاً في الجنة: “أنا وكافل اليتيم في الجنة”. فلو كان اليتيم، من فقد (بعض) سنده الأسري، أليس من الأولى الالتفات لمن فقد (كل) سنده الأسري؟
ربما لهذا السبب، استقر (دار المايقوما) في مسمّاه عند دار رعاية الطفل اليتيم، لأنه أشمل من الأطفال مجهولي الأبوين، أو أي مسمّى مجتمعي آخر فيه من الحمولة السالبة ما ينتقص من حق الطفل اليتيم، وحسناً فعل أصحاب الدار.
وجدت نفسي يوماً في المايقوما، وقد تكوّم إلى جانبي بعض أطفاله الأيتام، يهمسون بصوت خافت، وينظرون بدهشة إلى (الأغراب) الذين اقتحموا عليهم عزلتهم المجيدة .
كان الأستاذ طارق الأمين يضع لمساته الفنّانة على (الهيلاهوب)، وهي تستعد لتقديم وصلتها الترفيهية، وعازف الأورغ يضبط موسيقاه بنغمات متقطعة. يتحرّك طارق كفراشة غير حائرة بين أفراد الفرقة، من يمين المسرح إلى يساره، فتهاجر معه عشرات العيون الصغيرة وهي تتبع خطاه.
تتداخل الأصوات وتلتحم مع بعضها بضجة المدعوّين وهم يربتّون على اكتاف بعضهم البعض مرحّبين، وصفير الالآت الموسيقية وهي تتهيأ لتتدفق منها شلالات الأنغام، ووقع خطوات عاملات الدار وهنّ يجلدن الأرض بكعوب أحذيتهن مهرولات، لتدارك غضبة المديرة وتلافي ما سقط سهواً في زحمة التجهيز لجبر خواطر الأيتام.
لم يشغلني كل هذا الغبار الصوتي عن الاستماع لهمس الأطفال الذين تكوّموا إلى جانبي!
حشر طفلين جسديهما في الركن القصي من الأريكة الطويلة التي جلست عليها، ووقف الثالث أمامي، وعلى عينيه نظّارة سميكة حاولت جاهدة أن تغطّي وجهه البريء وحزنه الأزلي، و تمنحه (بُعد نظر ) فقده من اتى به في لفافة الي الدار .
كان طفل النظّارة السميكة، ينشغل قليلاً بحوار رفاقه الهامس، ثمّ يرفع رأسه إلى الأفق سريعاً حتى لا تفوته حركة المسرح الصاخبة.
رأيت أمامي بوضوح، شظايا الخواطر المسكورة، ومسكنة الحوار الهامس. ولعلّ الثلاثي الصغير في نجواهم، لا يعلمون أن في خارج أسوار دارهم التي تحتشد بالأسرار الصامتة، حياة صاخبة، تصطرع فيها التعاسة والسعادة، الهناء والشقاء، الخير والشر، الوداعة والشراسة، ويبيض فيها طرفي النقيض، وتفرخ وتطير، وتملأ الأرض جوراً وظلماً وأيتاماً.
قطع عليّ تأملي، وصول الشاعر محمد طه القدال إلى موقع احتفال جبر الخواطر، يسبقه (الصديري) الذي تميز به مع عمامته مُحكمة اللّف. لم يشغلني الترحيب بالقدّال، أن (أدوبي) مع الأطفال همساً: “أبشروا تعالو ياجِنيات/ شليل ما راح/ شليل ما فات/ شليل فوق التقانت قام خضار وبلاد/ شليل مشوار/ شليل مسدار/ شليلنا أرضنا يا جِنيات/ حرازنا شليل/ شليلنا دليب/ شليلنا دليل على البلدات/ بعد درب التبلدية”.
كنت انتظر بالشوق كله، (قول القدال)، ثم أنظر حولي إلى كل وشمة زنجية وسحنة نوبية وكلمة عربية تزيّن جبين كافة أهل بلد (السمح والزين)، من الذين تجمّعوا من كل زوج بهيج في دار الأيتام لجبر خاطرهم الذي لن ينكسر أبداً، بإذن الله.
مع تصاعد المشاعر من عبقرية المكان والزمان، تجمّعت عواطفي ( زي غيما رعف حين طال علي ريح السفر ) وانطلقت من محبسها بعد أن فكّت اغلال البروتوكول الجامد ومحاذير التقيّد والتجمّل، وتركني في عراء السجية إنساناً كما ولدتني أمي الإنسانة.
لم أمنع دموعي التي تفجرّت من محابسها من أن تندلق وتسيل حارة مدرارة. ولم استطع مداراتها بكلتا يديّ. أطلقت لها العنان، فغمرتني حتى طابت نفسي وهدأت.
نسيت أن سبب وجودي في المكان والزمان، واجب وظيفي لرعاية مصالح شركتي في أداء مسؤوليتها المجتمعية، واسعاد شريحة منسيّة من المجتمع. نسيت البدلة والكرافتة والبروتوكول والقدّال وطارق الأمين، وتذكّرت يتيم الشاعر إيليا أبو ماضي، وهي من القصائد الراسخة عندي من أيام المدرسة الباكرة:
“قالوا: اليتيمُ/ فقلتُ: أيْتَمُ مَن أرى/ من كان للخلُقِ النبيل خصيما/ قالوا: اليتيمُ، فقلتُ أيْتَمُ من أرى/ من عاشَ بين الأكرمين لئيما/ كم رافلٍ في نعمةِ الأبوين/ لم يسلك طريقاً للهدى معلوماً/ يا كافل الأيتام كفّكَ واحةٌ/ لا تُنْبِتُ الأشواكَ والزقوما/ قالوا: اليتيمُ، فَمَاج عطرُ قصيدتي/ وتلفَّتتْ كلماتُها تَعظيما/ حَسْبُ اليتيم سعادة/ أنَّ الذي نشرَ الهُدَى في الناسِ عاش يَتيماً”.
خلاصة الأمر، حين تضيق بك الحياة، أذهب إلى أقرب طفل، واجعله يبتسم. عندها، ستبتسم لك الدنيا والسماء.