:
عادت مرة أخرى بعض الجهات تتحدث عن جهاز الأمن والمخابرات بعد أن يئسوا من الحديث عن القوات المسلحة ومحاولة تفكيكها وبعد أن شاهدوا الالتفاف غير المسبوق من المواطنين خلفها لدعمها في معركتنا المصيرية.
عادت هذه الأصوات للتشكيك والطعن في جهاز الأمن والصاق التهم الجزافيه به وبمنسوبيه. دون شك ستتكسر هذه الأسهم الصدئة وترتد عليها.
الملاحظ هذه المرة أن اليسار واليمين على حد السواء يحاولون النيل من الجهاز، وهذا أمر ملفت، لأن العراك كان دائما بين الإثنين للسيطرة عليه واستخدامه لضرب الخصوم السياسيين وتصفية الحسابات السياسية.
إن أجهزة الأمن في كل الدول في محصلتها النهائية (أداة) تستخدمها السلطة لحماية المجتمع والحفاظ على الاستقرار والأمن العام. ولتحقيق هذا الهدف تصدر الدولة التشريعات المطلوبة ليقوم الجهاز بعمله.
من نافلة القول أن اجهزة الأمن لا تصدر التشريعات الخاصة بعملها، إنما السلطة القائمة ومؤسساتها التشريعية هي التى تصدرها، والتي تحدد مهام وصلاحيات جهاز الأمن، ولذلك يجب ألا يقع اللوم على الجهاز وأفراده، انما يكون اللوم على السلطة السياسية التي أصدرت التشريعات ابتداءا، ذلك هو مكمن الداء والعلة في حياتنا السياسية أو كما يقال (عينك في الفيل تطعن في ضله).
فمثلا بعد انقلاب العقيد نميري الذي دعمه اليسار والقوميون العرب تقع المسؤولية عن التجاوزات التي وقعت على النميري والقوى السياسية الداعمة له، وكذلك الأمر على الانتهاكات التي وقعت بعد انقلاب البشير الذي نفذته الجبهة الإسلامية كما اعترف قادتها بذلك.
هذا بالطبع لا يعفي بعض أفراد الجهاز الذين تورطوا في تعذيب المعتقلين السياسيين، وهو أمر لم يكن مبررا إطلاقا، أما اعتقال المخالفين في الرأى – رغم رفضي له- فواقع البشرية اليوم يقول إنه يحدث في كثير من الدول تحت ذرائع شتى وبلادنا ليست شعبا من الملائكة كما أننا لسنا بدون أخطاء.
تجربة (قحت/ تقدم) الحالية اثبتت بما لا يدع مجالا للشك وقدمت بينة كافية أن هنالك فعلا من يجب أن يبقي خلف القضبان لخطورته على أمن المجتمع وأمن الوطن، ويجب أن لا تأخذنا رأفة بمثل هؤلاء.
فعندما وجد هولاء الحرية أدخلوا البلاد في فتن وحروب مدمرة كادت أن تمسح مجتمعنا ودولتنا من على خريطة العالم لولا لطف الله بنا وجسارة القوات المسلحة وجنود وضباط جهاز الأمن و المستنفرين.
التراخي في حسم هولاء هو ما قاد الى الكارثة والماسآة التى يعيشها شعبنا حيث يقتل الأبرياء من الناس كالسوائم.
من البديهيات يجب أن يكون جميع المواطنين حراسا لأمن البلد، هذا أول واجبات المواطنة، ويتوجب عليهم رفد الجهاز بالمعلومات والملاحظات والتحركات لكل ما يشكون فيه أو في نواياه للإخلال بسلامة الوطن.
ومن نافلة القول لايوجد جهاز أمن يمكنه متابعة كل ما يدور داخل البلاد بالدقة والرصد المطلوبين، ولذلك تعتمد أجهزة الأمن في كل الدول على المعلومات الأولية التي يدلي بها المواطنون ومن ثم تقوم بالاستقصاء عنها وتنهض بالمتابعة لوأد أى خطر قد يتبع.
عندما تم حل هيئة العمليات التابعة لجهاز الأمن، لم تخرج أى مظاهرة احتجاج على ذلك رغم خطورة القرار، بل فرح القحاتة واعتقدوا أنهم سجلوا نصرا مؤزرا على الجهاز الذي اعتقدوا لسذاجتهم أنه خصما لهم، وما دروا أنهم ساقوا بلادهم ومجتمعهم إلى الهاوية..! فإن كانوا يدركون خطورة ما فعلوا فهم خونة تجب محاكمتهم، وإن كانوا لا يدركون فهم سذج لا يصلحون للحكم..! إذ كيف لإنسان عاقل أن يفكك الدرع الذي يحمي مجتمعه من السهام، ثم بعد ذلك يدعي ويزعم أنه حريص على أمن البلد..!
ما ضر بلادنا شيء مثل المطالبة بالمثالية في أجهزة يتطلب عملها الكثير من (الاجراءات) حماية لأمن المجتمع وتماسك الدولة. ولذلك فالعمل في جهاز الأمن يجب أن يشمل كل فئات المجتمع بمختلف سجلاتهم، فالجهاز يحتاج أن يكون موجودا وسط كل مكونات المجتمع، نساء، رجال، طلاب، موظفين، رجال أعمال، اساتذة جامعات حرفيين، ائمة، لصوص، سفلة، أراذل، مزارعين ، عمال، صحفيين.. الخ لأن هذه هي مكونات المجتمع الذى يتوجب على الجهاز حمايتها، وبدون وجوده بينهم لا يمكن له حمايتهم.
اما بعض السلوكيات التى تخالف القوانين السائدة لبعض هذه الفئات فهي من عمل الشرطة والمحاكم وليس لجهاز الأمن علاقة بها.
يجب ألا يكون جهاز الأمن مكانا للمتبتلين والصائمين والقانتين، فهولاء مكانهم المساجد وحملات الدعوة، أما عمل الجهاز فهو عملا بشريا صرفا يتطلب الإلمام الكامل بطبائع المجتمعات والمتآمرين والخونة ولا تصلح فيه حسن النية مطلقا، وكما يقال فإن الطريق إلى الجحيم مفروش بحسن النوايا. والآن دفع مجتمعنا دما غزيرا لحسن النوايا وما يزال الحبل على الغارب. ولذلك يجب أن نكون قد وعينا الدرس من واقع هذه الحرب ومن مآساة عشرات ملايين المواطنيين الأبرياء الذين استبيحت حياتهم ودمرت أو قتلوا أو شردوا في فجاج الأرض دون ذنب.
إن تفكيك المؤسسات الحساسة كالجيش والأمن هو في جوهره تفكيك للدولة، كادت قحت إبان فترة حكمها أن تقضي على جهاز الأمن كمؤسسة وتركت بلادنا (أم فكو) استباحها السفراء طولا وعرضا حتى أعلن قائد المليشيا صراحة: (تتحكم فينا السفارات).. ولا يمكن لدولة محترمة أن تسمح لنائب الرئيس أن يقول مثل ذلك الحديث ويذهب لينام مطمئنا..! وكما هو معلوم صمتت جماعة قحت على تصريح حليفها ولم تنف أن السفارات تتحكم في البلاد التي كانوا يحكمونها وقتها، وكان ذلك إقرارا بحقيقة واقعة. لم يجرؤ أي من قادة قحت على نفي ما قاله قائد جناحهم العسكري. وكان الواجب الوطنى يقتضي عليهم إخراج العطالى من مناصريهم في مظاهرة ضد تلك التصريحات والمطالبة بإقالة نائب الرئيس وإبعاد تلك التهمة عنهم تماما، لكنهم كانوا شركاء في ذلك يخضعون لتوجيهات السفراء (إقرارا بالاستعمار).
بعد أن أحست قحت أن جهاز الأمن أصبح بلا أسنان اتجهت للخطوة الأخيرة وهي تفكيك الجيش معتمدة على جناحها العسكري، فنالت وبال أمرها.
على القوى السياسية الوطنية أن تتفق وتلتزم أن لا تتحدث عن الجيش وعن جهاز الأمن في الإعلام مهما كانت الأسباب والمبررات، وإن كان لديها ملاحظات حول هذه المؤسسات يجب تسليمها كتابة لقادتها دون ضوضاء.
والله لا أعرف شعبا يتحدث عن الأجهزة الأمنية لبلده في كل وسائل الإعلام بتلك الصورة الفجة الساذجة. والحال كذلك فقد آن الاوان لإصدار تشريع يجرم كل من يتحدث عن الأجهزة الأمنية في الإعلام، مع تأسيس قناة محددة للقوى السياسية لإيصال ملاحظاتها حول هذه الأجهزة لقادتها.
ولعلي في نهاية هذا المقال أشير إلى أنه لا توجد مؤسسة مدنية كانت أم عسكرية لا تحتاج إلى إصلاح، وليس الهدم والتفكيك، فكل المؤسسات بطبيعتها تحتاج إلى الإصلاح والتحديث ببساطة لأن الواقع الاجتماعي والسياسي المتغير يقتضي ذلك، ولكن الشعوب لا تذهب إلى الإعلام (لتدق طار) مؤسساتها أمام العالم.
في كل الدول إصلاح المؤسسات الحساسة كالجيش وجهاز الأمن تناقشه لجان متخصصة في برلمانات منتخبة ترفع تقاريرها وتوصياتها لرئاسة الدولة ومن ثم يتم الإصلاح دون ضوضاء ولا جلبة.
أثبتت هذه الحرب أن قادة الجيش وضباطه وجنوده و قادة جهاز الأمن وضباطه وجنوده، أهل للتضحية والفداء وقدم العديدون منهم من مختلف الرتب أرواحهم رخيصة في سبيل أداء واجبهم والدفاع عن الوطن، هذا ما يجب الاحتفاء به وليس انتقادهم أو التقليل من تضحياتهم، فلولا هذه التضحيات الضخمة لأصبحنا سخرة أو عبيدا خداما لآل دقلو وحواضنهم الاجتماعية.
ونحن نقترب من النصر التهنئة لرجال القوات المسلحة وجهاز الأمن (أمن ياجن) بانتصاراتهم وافتخارنا بما يقدموه من تضحيات من أجل الوطن حماية لحقنا في الحياة بكرامة.
هذه الأرض لنا