
أتت هذه الحرب وفي الأيام الأولى لدوران رحاها تركت بداخلنا حسرة وألماً لبلد ينعم بالسلام والأمن منذ زمن بعيد، ومواطن بسيط كل همه لقمة عيش تسد رمقه وبيت صغير يأويه من تقلبات الأجواء ومستشفى او مركز أو (شفخانة) يتعالج فيها إذا مرض، أحلام بسيطة فقدها في وطنه، لا يعرف السياسة ولا دروبها ودهاليزها وغدرها وما وراءها من مصالح ومطامع.
شعب صفاته لم تتصف بها أي من الشعوب العربية أو الأجنبية، جُبل على الكرم والشهامة والشجاعة والحنكة والرأي السديد، شعب لا يعرف الخوف والوجل ولا التخاذل.
أصيب الأغلبية بالذهول لاندلاع هذه الحرب دون مقدمات، وشرد الآلاف من مدنهم هائمين على وجوههم إلى أين المستقر والمقام وفي قلوبهم حسرة على فراقهم لبيوتهم ومساكنهم ومراتع صباهم مع فقدان كل الممتلكات.
كانت الصدمة قوية عند الوهلة الأولى ولكن سرعان ما تبدل الحال وأصبحوا مقتنعين بأن كل شيء أتى بإرادة الله سبحان وتعالى.
مات من مات وحي من حي ولكن طريقة الموت تختلف من مواطن لآخر، منهم من مات مواجهاً العدو مدافعاً عن عرضه وشرفه ومن مات نتيجة مضاعفات الأمراض المزمنة وآخرون ماتوا حسرة على ما شاهدوه ولاقوه من هؤلاء الأوباش وغيرها من طرق الموت المتعددة والبشعة التي شاهدناها عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
فقدنا الكثير من الأهل والأصحاب والجيران وتألمنا لفراقهم وحتى هذه اللحظات الوجع يفتح كل يوم جرحاً جديداً أكثر إلاماً.
كل هؤلاء فارقوا هذه الدنيا ورضينا بحكم الله وقوله (كل نفس ذائقة الموت)، ولكن جاء استشهاد الملازم اول محمد صديق كالصاعقة وفتق الجراح لجراح غائرة، صدمنا من الغدر والاستفزاز الذي واجهه الشهيد وصبر عليه كأن لم يكن هناك شئ، ثبت ثبات الجبال الشامخات، ثبت ابن مهيرة بنت عبود وعزة وابن المك نمر، واقفا بكل شجاعة في وجه العدو عالي الهامة، رافعا الرأس لم يرتجف ولم يتزحزح عن رده حتى استفز العدو وجعله يقدم على فعلته الشنيعة دون رحمة ولا وازع ضمير.
(الكف) الوقع على وجه الشهيد محمد صديق لم يشعر به ولم يعره اهتماماً والدليل على ذلك أنه أصر على رده وكله عزة وكرامة وشهامة ومروءة وشموخ، ولكن شعر به كل من شاهد لحظة الاستفزاز التي حرك بها السفلة اللئام.
(كف) الشهيد محمد صديق واستشهاده في رقبة وذمة كل سوداني حر لا يقبل بالاهانة والذلة والاستفزاز، (كف) الشهيد جاء في وجهنا جميعاً وحرك مكامن الغضب جوانا، (الكف) الوقع على وجه الشهيد لابد أن يتضاعف في وجه الأوباش السفلة أضعافاً مضاعفة، بل أكثر قساوة منه، الرسالة لرفقائه في المتحرك وللقوات المسلحة والمستنفرين، ولكل من استفزه مشهد استشهاد الملازم أول محمد صديق.
قدم الشهيد لنا درساً للتاريخ تتوارثه الأجيال جيلا عن جيل، أن نظل مرفوعي الرأس والهامة بالعزة والكرامة مهما كانت قوة العدو. وظل الشهيد مثالاً للتضحية وحب الوطن، حين قال قولته المشهورة والمملوءة بهذه المشاعر (الرهيفة التنقد) وانقدت الرهيفة بعزة ونصرة الحق.
طبت حياً وميتاً يا فارساً وفياً صادقاً معتزاً بنفسك ووطنك من اجل الكرامة والشرف. روت دماؤك أرضاً أحببتها وأحبتك، تمرق جسدك بترابها وجرتقتك عريساً شهيداً وارتقت روحك الطاهرة إلى السماء.