همس الحروف.. سحابة حزن سوداء ظللت سماء دنقلا لغرق الأخوين أواب و خالد في أول أيام العيد.. الباقر عبد القيوم علي
عاشت مدينة دنقلا حاضرة الولاية الشمالية حالة من حالات الشعور بالبؤس و العجز و الحزن العميق إثر غرق طفلين شقيقين بالنيل أول أيام عيد الفطر المبارك ، و الشيء الذي عمق الكآبة و اليأس في قلوب الناس هو تأخر وصول فرق الإنقاذ الذين لم يظهر منهم أحد إلا بعد أن تحقق فقدان الأمل تماماً في حياتهما ، تخيلوا معي جموع غفيرة من المواطنين ينتظرون سراب و يتجاون هنا و هنالك كالذين يتخبطهم الشيطان من المس و يصرخون : (أين الدفاع المدني ؟ أين الإنقاذ النهري .. أين .. و أين … و أين .. و كثير من أين ..) ، ومن المؤكد ليس هنالك إجابة تشفي الصدور ، و خصوصاً أن والدهما كاد أن يفقد عقله من تجاذب المشاعر السلبية و حالة الأسف التام و السدم الذي يعمي القلوب ، حتى أشعره بالعجز الكلي و هو ينتظر بارقة أمل من أي شيء يتعلق بهما ، و تحولت الأماني من إنقاذهما إلى لهفة العثور على جثتيهما .. و ما زالت الأصوات ترتفع بالسؤال عن الغطاسين مرة أخري ، فيجيب البعض ليطمئنوا السائلين و يقولوا لهم : لقد أبلغناهم .. إنتظروا أنهم في الطريق و ما هو معلوم بالضرورة أن تأخر فرق الدفاع المدني في الوصول إلي مكان مثل هذه الحوادث أصبح سمة ملازمة و هذا ما يعمق و يضاعف الخسائر ، و هذا التأخير و التعامل مع الأحداث بهذا البرود أضحى عادة معتمدة في السلوك البشري السوداني و لا غرابة في ذلك ، لغياب الرقيب و الحسيب ، و لكن عند الله تلتقي الخصوم .
هذه الحادثة المأساوية عمقت الحزن بصورة يصعب وصفها لدى جميع أهل دنقلا و ذلك لوقوعها في ظهيرة يوم عيد الفطر المبارك ، و علاوة على ذلك ان أسرة الطفلين حلت على مدينهم ضيفة عزيزة .
على خليفية الأثار المترتبة على الصحة النفسية للنازحين الذين فقدوا كل شيء و جاءوا إلى مدن ليس لديهم فيها مأوى حاولت مجموعة من هذه الأسر التي أتت بها الحرب و هي الآن في ضيافة مدينة دنقلا أن يرفهوا عن أنفسهم بكسر الروتين اليومي و الخروج من حالة الكآبة و إدخال الفرحة في قلوب أولادهم ، فقرروا عمل برامج ترفيهي بالذهاب إلى شاطئ النيل قبالة الكبري الذي يربط بين دنقلا و السليم ، و هم لا يعلمون بخطورة هذا المكان ، فجاءوا ترويحاً عن النفس التي كبلتها هموم المعيشة ، و كلت من مشقة الحياة الرتيبة مع الجدر و الحوائط التي سئموا من النظر المتكرر إليها .
و بعد وصولهم إلى الشاطئ، و بينما مجموعة الأطفال تلعب في طرف النيل تحت الكبري في عمق ماء لا يتجاوز نصف ساقهم و معهم أواب و خالد محمد محجوب الجلك ، إنزلق الأخ الأصغر خالد (9) أعوام في عمق سحيق ليس له نهاية على بعد نصف متر من هذا المكان الضحل و حاول شقيقه الأكبر أواب (11) عاماً إنقاذه إلا أن النيل لم يرحم صغر سنهما ، فإبتلعهما الإثنين سوياً في جوفه و ما زال عطشاً لغيرهم ، فحينما شاهدت والدتهما المنظر المرعب أمامها هرعت إليهما لإنقاذهما و هي لا تجيد السباحة و لو لا لطف الله تعالى عليها لغرقت هي الأخرى معهما ، حيث تمكن أحد الحاضرين من الشباب الذين يجدون السباحة من إنقاذها من الغرق ، فهذه الحادثة المؤلمة و المؤسفة خلفت حزن شديد و أسى عميق أفسد الفرحة بالعيد على ذويهما و معظم مواطني مدينة دنقلا .
تضافرت مساعي المنقذين الذين تأخروا في الحضور ذهاء الساعتين ، و بعد ذلك أسفرت جهود البحث المضنية عن إنتشال جثمان الأخ الأصغر خالد ، و تم فقدان الأمل في العثور على الأخ الأكبر أواب إلا أن الأهالي إستخدموا طرق متوارثة عندهم منذ القدم في مثل هكذا حالات و هي البحث عن طريق السنارات التي يتم بها إصطياد الأسماك و ما هي إلا ساعات قلائل حتى أتت البشري بالعثور على جثمان الأخ الأكبر ، .
أبوي الطفلين أواب و خالد هما محمد محجوب الجلك (نميري) من أهالي قرية جلاس بريفي محلية مروي و يعمل موظف بالخرطوم ، و وداد أحمد محمد شريف موظفة سابقة و (ربة منزل) ، من أهالي منطقة مراغة إحدى القرى المتاخمة لمدينة دنقلا والتي تعد أحد أحيائها ، حيث أتت بهذه الأسرة إلى مدينة دنقلا تداعيات حرب الخرطوم .
الشيء اللافت للنظر هو ان هذا الشاطيء يعتبر من أخطر الأماكن على الإطلاق في مدينة دنقلا و التي سجلت فيه معدلات عالية في حوادث الغرق التي راح ضحيتها العشرات من الرجال و النساء و الشباب و الأطفال .
السؤال الذي يطرح نفسه ، أين الجهات المسؤولة عن تأمين هذا الشاطي ؟ ، و اين وحدة الإنقاذ النهري عن مثل هذه الحوادث المرعبة ؟ ، و خصوصاً أن هذه الأماكن باتت معروفة بحوادثها المأساوية المتكررة التي تشبه في سردياتها قصص مثلث برمودا التي تقشعر عند سماعها الأبدان ، سيما و ان الاهالي يعتقدون بأن هنالك طرف ثالث خفي وراء هذا الغرق ، و اغلب الظنون ترشح أن هذا المكان (مسكون) ، أي يسكنه الجن و هو الذي يتسبب في هذه الحوادث الكارثية .
فلماذا لا تضع هذه الجهات التي تقع على عاتقها المسؤولية لوحات إرشادية تمنع السباحة في هذه الاماكن و تحذر الناس من خطواتها و خصوصاً أن المدينة هذه الأيام تشهد إزدحاماٍ حاداً و إنفجاراً سكانياً غير مسبوق بسبب ضيوف الولاية الناجين من الحرب ، الذين ليس لديهم علم بخطورة هذه الأماكن ، و لهذا يجب على حكومة الولاية محاسبة هذه الجهات المقصرة دون رحمة أو رأفة ، لأن هذا القصور سيقود لزيادة مثل هذه الحوادث المتكررة .
فإذا كان سعر الحمار الدنقلاوي (مليون جنيه) ، و لنفترض بالمقابل ان قيمة الإنسان عند هؤلاء تساوي نصف سعر الحمار ، أي خمسمائة ألف جنيه ، أليس كان بالإمكان عمل لوحات إرشادية بنصف هذا المبلغ توضح لمستخدمي هذا الشاطيء حقيقة خطورة هذا المكان و بذلك ينقذون حياة العشرات من الناس .. هل هذا الأمر يريد إجتهاداً أو مبالغة في السعي ، سنتابع عن كثب ما سيجري في هذا المكان لمنع تكرار هذه الجريمة .. و حقاً أنها جريمة شنعاء ، و سنوافي الرأي العام بأي مستجدات ؟ .
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يتقبل شهادتهما خالصة عنده ، و أن يثبت قلب والديهما و أن يلهم جميع أهلهما الصبر و السلوان و حسن العزاء و إنا لله و إنا إليه راجعون و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم .