
الكهرباء مقطوعة – الطقس مولع – قلت أكسر هذا الوضع القاس بكباية قهوة – كعادتنا لا نميز متى نتناول الساخن والبارد حسب أحوال الطقس – المهم – مررت بدكان أيوب الذي تسلمت منه (جلاليب) عيد رمضان قبل أسبوع، أيوب ترزي يروض القماش بطريقة فنية بديعة بإمكانه أن يفصل عدد حبات سلسلتك الفقرية على ظهر الجلابية – سلمت على كمال داخل دكانه وهو يبايع طفلة بعض الحلوى وسيدة تنتظر دورها – الدكان أصبح شبه خالٍ – مواده التموينية تتلاشى من الرفوف بعد أن كان ينظر أولاً ليتخير موطئ قدم بين البضائع المكتظة.
إبراهيم يحتفظ بملامح الجزار الحريف وخفة يد الخضرجي – إذ يدس ربطة جرجير مع ليمونتين زيادة داخل كيس السلطة و(خمشة) شطة خضراء تجنبه هروب الزبائن لصاحب بوكس الخضار الثقيل الذي لا يحترم دوائر إختصاص خضرجية (الحِلة)، فينادي على مرمى حجر من محله (تلاتة كيلو طمام ألف جنيه – كيلو البطاطس خمسمية جنيه ) – إبراهيم حتى الآن محله ملئ باللحوم والخضروات ويلعب الكتشينة مع من أقعدتهم الحرب عن العمل.
مبارك أغلق متجره الصغير منذ فترة لأنه عالق في السعودية بسبب الحرب – الحسنة الوحيدة أنه ترك الإنارة تعيد لزبائنه أشياء من ملاطفاته أثناء المفاصلة في الأسعار وإعادة معانقة الطريق لمن هم في دفتر (الجرورة).
طاحونة عمك الضي واحدة من أهم أسباب ثبات المرجفين في الحلة – قال عنه صديق – (كل ما أشوف عمك الضي جايب شوالات الذرة والقمح بكميات قلبي ببرد وما بفكر في السفر) – طاحونته أصبحت تمد الناس ببدائل تصنع منها وجبات شعبية مشبعة تغنيك عن رهق البحث عن الخبز الذي يحتاج إلى حمل إثبات شخصية تجنبك الاتهام بالانتماء للعسكرية.
عم بشير ما زال يبث الأمل في نفوس سكان الحي، فهو الوحيد الذي ظل يمارس عمله في دكان العدة بنفس البشاشة والحماس، يلتف حوله بعض المراقبين للأحداث والمحلليين والخبراء في شئون الحرب والقتال من أهل الحي، فكل من يقرر مغادرة الخرطوم ربما يعيد حساباته لو مرّ بدكان عم بشير وهو يتوسط مجموعة ذات عصرية – بالمناسبة قبل أيام دعاني ابنه كامل على وجبة غداء (كسرة بملاح ويكة)، جبّت ما قبلها من طماطم وبصل ودكوة، وغسلت ذاكرتي الغذائية التي دمرتها الحرب وشتّت نكهتها.
علاء الدين الذي يحفظ اسمه الأطفال، في الجهة المقابلة لدكان عم بشير، آخر مرة إلتقيته قادماً من سوق أم درمان بعد مغامرة خاضها بين اللصوص والمتفلتين يحمل بضائع لبوتيكه، فهو شاب يجمع بين تشجيع برشلونة والمريخ – هذا الخليط لا يجتمع إلا في شخصية مكافحة صبرت على خيبات فريقها المحلي بإنجازات ذاك العالمي في السنوات الماضية على الأقل – علاء يفتح محله للزبائن ويصلي في المسجد و يشاغل الريالاب في النادي – تجده أحياناً في القهوة ويومياً في التمرين – هذا النوع أيضاً يجعلك تتمسك بالبقاء في الحي ولو تحت القصف والتدوين المتواصل.
رامي الحلاق الماهر أكثر المتمسكين بالبقاء رغم أن الرؤوس إنشغلت بالتفكير في مآلات الحرب وتحليلاتها فضلاً عن هم تدبير المعيشة فكل ما تلمح زبون تجده أشعث الرأس كل (خمسطاشر) شعرة تمضي متماسكة باتجاه معاكس للأخرى، وإن حضر الزبون فإن للكهرباء رأي آخر – أما أصحاب مقدمات الرأس العارية والصِلع (وناس) قطعية أظنهم قد حرموا صديقي رامي من تحية الإسلام الخالدة.
حاجة حواء إمراة تعيش صغارها بالعمل على بيع الدكوة وبعض البهارات، أضطرت لعرض بضاعتها في محيط الحي بدلاً من سوق ليبيا، يرافقها بعض الرجال والنساء يعرضون أشياء بسيطة لا تتناسب مع مقاماتهم لكنها قسوة الحياة في وطأت الحرب اللعينة – هؤلاء شكلوا سوقاً صغيراً يتداولون فيه الأنس والقصص وبعض المآسي وكثير من الذكريات.
تناولت قهوتي في صمت وقضيت وقتاً أتأمل أين كنا وأين نحن الآن ومتى يزول هذا الكابوس الجاثم على أحلامنا – عُدت إلى المنزل ولم تعود الكهرباء، فقلت يا أبو زيد كأنك ما غزيت.
والبقاء لله
محمد أزهري
صحفي