في وسط ركام الأحداث الساخنة التي تشهدها بلادنا في هذه الأيام ، تطل علينا من بين هذا الركام إشراقات تطمئننا بأن الدنيا ما زالت بخيرها ، و هذا ما يقطع علينا حبل اليأس الذي تسلل إلى قلوبنا خلسة ، ليبعث فينا نفحات الأمل ، فمثل هذه القصص صنعها رجال تشبعت نفوسهم بجرعات ضخمة من الإنسانية الحقة و الوطنية المفرطة فكانت قصصهم تحمل مضمون هذه المعاني التي إستطاعت أن تبعث الطمأنية في نفوسنا ، و لقد وصلتنا في شكل سلوك و خبر ، فنجد في بعض الأحيان أن قصص بعض من هولاء العظماء قد تجاوزت وصف الخبر نفسه الذي تم وصفهم به كما كان ذلك في حالة الأخ جدو عثمان عسالة ، فكان من الواجب علينا أن نرمم ذواكرنا التي تحمل في طياتها بضع من قصص و حكاوي هؤلاء الذين وضعوا بصمتهم في صفحات التأريخ ، فكانوا و ما زالوا أهل للعطاء ، على الرغم من بساطتهم كانوا عظماء ، و على الرغم من قلة مدخولهم كانوا أغنياء ، لان الفقر لم يدخل أبداً إلى قلوبهم التي كانت مملوءة بالإيمان و حب الخير للناس .
فجدو عثمان عسالة إستطاع أن يجمع في شخصه كل قوميات السودان ، فهو جنوبي الميلاد و المنشأ ، حيث ولد بولاية أعالي النيل بمدينة الرنك ، فهو عربي الإنتماء بقبيلته التى تتشرف بإنتسابه لها ، فنجده قد أخذ من فراسة و شجاعة و كرم أهله الرزيقات ، فلم يغلق نفسه على قومية بعينها فوسع قاعدة إنتمائه بالزواج حيث ظفرت به ولاية نهر النيل فتزوج من حسانها ، و قد جمع في بقية زيجاته من أخريات لا تقل مكانتهن عن تلك ، فكان بيته يشكل السودان المصغر ، المتسامح و المتصالح مع كل قبائل السودان ، فلقد جسد قيم و معاني الإنتماء الحقيقية لسكن الروح ، فجمع المودة و الرحمة في قالب أسرته الصغيرة التي تعيش تحت سقف واحد ، فأشتهر بين الجميع بجوده و عطائه اللا محدود ، و لذلك نجد باب بيته كان مفتوحاً على مصرعيه و ما زال مستقبلاً لكل من طرقه ، و أبرز ما يميزه الزهد حتى يخال إلى البعض أنه قد طلق الدنيا على الرغم من أنه اكثر الناس حباً لها ، و لكن ذلك بفهم عالى جداً لانه إستطاع أن يجسد تلك المعاني الراقية التي تضيف إلى مفهوم حياة الناس طعم و نكهة و التي أقتبسها من تلك الحكمة المأثورة التي تقول : (عش لدنياك كأنك تعيش أبداً و أعمل لآخرتك كأنك تموت غداً) ، فأستطاع أن يزيح بهذا الفهم الراقي جزءاً كبيراً من ستار عتمة و ظلمة الحياة التي جثمت على صدورنا في هذا الزمن الكسيح ، فلقد تربع جدو عسالة بهذه الصفات التي تحمل اصالة الرجل السوداني على عرش الرجولة كفارس مغوار ، فهو رجل يملأ نصف قلبه الحن و الحنين لأهل بيته ، و في النصف الآخر يحمل كل معاني الحب و الخير و العطاء للآخرين .
لقد تحدثت بهذه الكلمات الخجولة عن هذا الرجل القامة على الرغم من يقيني التام بأن ما كتبته عنه قد لا يوازي شموخ هذا الانسان الذي أدب نفسة بأدب الإسلام ، فجمع في محياه نفحات الحب و الخير للإنسانية جمعاء ، فكان أخاً عزيزاً إستطاع أن يفرض إحترامه و تقديره على كل من يقابله ببسمته الخافتة ، و قد حاز على لهفة الناس عليه ببساطته و كرمه الفياض ، فكان خير مثال لحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي يقول فيه : (من تواضع لله رفعه) ، نسأل الله الكريم رب العرش العظيم ان يحفظه و اهله الكرام و أن يمكنه من خير الدنيا و نعيم الآخرة .. اللهم آمين … و الله من وراء القصد .