*”أحب كل شعورٍ شجاع، فكل شيء ينطقه اللسان وقعه أجمل”.. محمود درويش..!*
تخيل أن تنتمي إلى بلد يؤمن معظم شعبه بواقعية الأمثال التي تحرض على الجفاف العاطفي والعنف اللفظي بنصوصها المسجوعة التي تؤكد لك إن حلو اللسان هو في الحقيقة قليل إحسان، وأن الحديث – مهما بدا منطقياً ومنمقاً – إن لم تصاحبه أفعال فهو محض كلام لن يسقيك شربة ماء..!
ثم يشاء الله أن تندلع حرب في بلادك وأن تضطرك أهوالها إلى شد الرحال نحو جارتها مصر، والإقامة فيها لأكثر من عام ونصف العام، وهذا يعني أنك سوف تمشي في شوارعها وتذوب في ازدحامها، وتتذوق فنونها وآدابها وتتابع علامها، وتحتك بعاداتها وتقاليدها، وتتأثر بثقافة مجتمعاتها..!
بضعة شهور من المعيشة اليومية كانت كافية لكي تدرك أن البون الشاسع بيننا وجارتنا مصر في كل ما يختص بفنون الكلام وكل ما يخص أن تكون طرفاً في حوار مع الآخر..!
المصريون ـــ من الوزير إلى التاجر إلى الموظف إلى الخفير ــ كلهم يحملون شهادة دكتوراه فطرية في علم الكلام، والفرد عندهم مهما قل نصيبه من الرزق أو التعليم متحدث لبق بالطبيعة والنشأة والمعايشة الاجتماعية ..!
مفردات وأيقونات المخاطبة والتواصل بين الأزواج عندهم تكاد أن تكون نقيض نظيرتها عندنا، من كلمة “حبيبي” التي تتوسد أطراف الألسنة إلى صراحة التواصل البصري إلى تناغم لغة الجسد التي تطغى على تعاملهم في الأماكن العامة ــ بصرف النظر عن خارطة الدواخل ــ المهم أن اللسان حلو، والباقي على الله ..!
بينما يحرص الزوج النمطي عندنا على أن تسبق خطواته زوجته بفارق متر إلا قليلاً، وأن تتسربل ملامحهما بالجدية التي تبلغ حد الصرامة عندما تضطرهما الظروف إلى إدارة أي حوار جانبي في حضور الآخرين، وكأن إظهار التواصل والتناغم العاطفي ضمن إطار الأدب والاحتشام عيب، وكأن استشعار الآخر لعمق محبتهما كأزواج ذنب اجتماعي يستعيذان من الوقوع فيه ..!
عندما يتعلق الأمر بالمشاعر يجد الواحد منا نفسه محشوراً في خانة الإنشاء العاطفي، يلجم الحرج لسانه وتحتل الأفعال مكانة الأقوال..!
الرجل السوداني هو أفضل الأزواج وأكثرهم شهامة وإخلاصاً ونبلاً بشهادة معظم الآخرين، لكنه يفضل التعبير المادي، وهو على استعداد لهد الجبال عن طيب خاطر مقابل أن لا يضطر إلى مخاطبة زوجته بكلام عاطفي مباشر، أما الزوجة السودانية فقد يوردها دخول زوجها عليها بباقة ورد موارد الظنون المفضية إلى استشعار الخيانة أو استشراف الهلاك ..!
نحن شعب يعاني أزمة بوح متوارثة بتوارث مناهج التربية الأسرية، والسوداني بمختلف انتماءاته “محب كسلان” يميل إلى انتظار مبادرات الطرف الآخر تحت شجرة السلبية الوارفة التي يختار البقاء تحت ظلها وهو يتغنى باللهفة والأشواق عوضاً عن اللجوء إلى الحلول العملية المرهقة ..!
الكلمات التي تحمل معنى الانتظار تتردد في الأغنيات التي نطرب لها ونترنم بألحانها أكثر من مفردات المبادرة والإقدام، لأنها صورة “مُلحَّنة” لما يمكن أن تبلغه عزائمنا المتواضعة في “قصص الريدة” ..!
وبينما يقول المصريون “خد” عندما ينادي أحدهم الآخر، وتتردد هذه المفردة كثيراً في أغانيهم، نقول نحن “تعال” وتفرض هذه الكلمة وجودها باطمئنان في كثير من أغانينا..!
فإن جاء المحبوب فخير وبركة وإن لم يجيئ فما أكثر الانتظار تحت شجرة السلبية الوارفة إياها، ولا ضير من “الكشكرة” أحياناً بكلمة “تعال” الخاملة التي تشبه “عزومة المراكبية”،والغريب – بعد كل هذا – أنه يأتي ..!
هل يكمن الحل في تطوير بعض الإرث الاجتماعي لاستقبال شيء من التغيير؟. بعض علماء الاجتماع يقولون بأن الشعوب كلما كانت أكثر انعزالاً كانت أكثر تعصباً وأضيق أفقاً..!
فالاتفاق على بعض المسلمات والسلوكيات يبعث التماسك في المجتمع الواحد لكنه يبعث فيه الجمود أيضاً، لذا لا بد أن يكون هنالك شيء من التنازع – الذي يحدث بالتواصل المباشر مع المجتمعات والثقافات الأخرى – حتى يتحرك أي مجتمع نحو الأمام!.
munaabuzaid2@gmail.com