ظل قادة الجيش يرددون منذ اندلاع الحرب في الخرطوم في 15 أبريل الماضي، أنهم يعملون على استراتيجية حربية تقوم على أسس علمية، وأن هذه الإستراتيجية استهدفت لشهر كامل ضرب معسكرات الدعم السريع في محيط العاصمة بالطيران، وذلك لقطع خطوط الإمداد ، وبالتالي تصبح متحركات الدعم السريع بلا إمداد .. بلا ذخيرة .. بلا وقود .. بلا غذاء .. ولا دواء ، فتستسلم كل قوات التمرد أو تهرب.
لكن اتفاق وقف إطلاق النار المؤقت القابل للتجديد الذي تم توقيعه في جدة أمس ، يقرر عودة خطوط الإمداد كاملة للتمرد (الفقرة 2. ح 3)، حيث لا يجوز منع القوات من الحصول على الوقود والغذاء والماء والدواء والكساء وكل المعينات الإدارية.
إذن الاستراتيجية راحت شمار في مرقة هذا الاتفاق .. بعد أن خسر السودان مليارات الدولارات ممثلة في احتراق وتدمير مصانع وشركات وأسواق وبيوت ومقار حكومية وبنى تحتية تأذت من قصف الطيران ومضادات الطيران بواسطة مدفعية التمرد ، فاحترقت أسواق أم درمان والخرطوم وبحري و سعد قشرة ومساحات واسعة من المناطق الصناعية في المدن الثلاث.
ثانياً : الاتفاق يقرر عدم خضوع قوافل المعونات الإنسانية لاية اجراءات إدارية بيروقراطية -كما سماها- وعدم تعويق حركتها (الفقرة 3).
ويعرف السودانيون تاريخ علاقة منظمات العمل الإنساني بإمداد حركات التمرد في السودان من الجنوب إلى دارفور عبر المنظمات الأجنبية، بما في ذلك التابعة للأمم المتحدة (شريان الحياة نموذجاً) ، وبالتالي تنفخ هذه المنظمات الروح في جسد التمرد وتطيل أمد الحرب (بما في ذلك إمدادات السلاح والذخيرة ونقل المتمردين خارج الحدود) كما حدث في حربي جنوب السودان وإقليم دارفور.
ثالثاً : قال الاتفاق بإمكانية تجديد وقف إطلاق النار مع بقاء كل قوة في مواقعها السابقة، وبالتالي استمرار وقف إطلاق النار لأشهر بالتجديد (الفقرة 1 -ج) ، مع بقاء التمرد في القصر الجمهوري و وسط الخرطوم وبحري وشرق النيل وجنوب ام درمان ووسطها (الاذاعة والتلفزيون) .. وغيرها من المواقع ، وهذا يعني تثبيت حالة (اللاحرب و اللاسلم) .. وتقسيم العاصمة القومية كما حدث لبيروت في ثمانينيات القرن الماضي، وما زالت آثار التقسيم ماثلة حتى اليوم في لبنان ، حيث تتمركز كل مليشيا طائفية في منطقة أو ضاحية في بيروت.
رابعاً : الاتفاق يقرر تشكيل لجنة دولية من 12 شخص لمراقبة وقف إطلاق النار وتحديد العقوبات على كل طرف ؛ 3 من أميركا و 3 من السعودية و 3 من الجيش و 3 من الدعم، وهذا تأسيس جديد لتدويل يشبه الوصاية للأزمة السودانية.
خامساً : الاتفاق في صدره ، يحوي إقراراً من الجيش السوداني بأن ما سُمي (الصراع) يهدد الحياة المدنية والاستقرار الاقتصادي ويشير إلى أنه لا طائل منه !! وبالتالي انتفت حكمة مشروعية حرب القوات المسلحة ضد التمرد بحمولته الأجنبية، وتهديده لوحدة السودان واستقراره كجيش موازٍ للجيش الوطني المسنود من كل الشعب كما تجلى خلال الشهر الماضي.
سادساً : الاتفاق يحظر في (الفقرة 2 – ز) احتلال المستشفيات، ومواقع الخدمات، وبيوت المواطنين،ويمنع اختطافهم واعتقالهم وتعذيبهم إلخ .. خلال فترة الاتفاق (أسبوع قابل للتجديد) لكنه لا يقرر تنفيذ هذا الالتزام بأثر رجعي، أي أنه لا يفرض على الدعم السريع الخروج فوراً من المستشفيات ومواقع الخدمات كالكهرباء والمياه وبيوت المواطنين في الأحياء السكنية ، واطلاق سراح المختطفين، وفي ذات الوقت يحظر استخدام الطيران ولو لأغراض الاستطلاع والتجسس !!
ولو كان وفد الجيش وقيادته في الخرطوم بالحصافة والفطنة الواجبة، لأصرت على ضرورة الإقرار بوضوح لا لبس فيه، على خروج الدعم السريع فوراً من تلك المواقع و لا يكتفي بنص يحظر دخول مواقع جديدة.
ختاماً هذا الاتفاق يؤكد خضوع قيادة الجيش لضغوط الولايات المتحدة الأمريكية، مفارقةً لاستراتيجية الجيش الرامية لحسم التمرد وإنهاء جرائم الجنجويد وعدم السماح بتعدد الجيوش ، مخالفةً للتوجه العام للشارع السوداني الرافض بشدة رغم ويلات الحرب، لأي شرعنة لمليشيا الدعم السريع بعد كل تلك الفظاعات غير المسبوقة في تاريخ السودان التي ارتكبتها خلال شهر واحد من الحرب.
الهندي عزالدين