همس الحروف.. عيد بطعم الدم و الموت و البارود .. لا سامح الله من كان سبباً في ذلك.. الباقر عبد القيوم علي
الفيلسوف الكندي (آلان دونو) أستاذ الفلسفة و علم الإجتماع بكلية العلوم السياسية جامعة باريس ، و رئيس قسم البرنامج في الكلية الدولية للفلسفة قام بتأليف كتاب بعنوان صادم للغاية يحمل إسم (نظام التفاهة) و كان ذلك قبل ثماني سنوات من الآن ، و قد صدر هذا الكتاب في نسخته الأصلية باللغة الفرنسية ، و يعتبر من أشهر الكتب الفكرية التي كانت و ما زالت مثار جدل واسعة ، و قامت الدكتورة مشاعل عبدالعزيز الهاجري بترجمة هذا الكتاب ، و هي عضو مجلس أمناء الهيئة العامة لمكافحة الفساد (نزاهة) بدولة الكويت ، و تأتي فكرة هذا الكتاب الأساسية في محاولة فهم أسباب وجود انماط إجتماعية و سياسية غريبة تخللت مجتمعاتنا و أصبحت تكافئ (التفاهة والرداءة) ، و التي تأتي خصماً من حساب الجدية والجودة في مجالات شتى .
تقول الهاجري: لقد كفاني هذا المؤلف مؤونة أن أدبّج كتاباً مكرّساً لنفس القضية التي كانت تشغلني كثيراً و خصوصاً على الصعيد العربي ، و كما أعفاني من إعادة اختراع نفس النسخة التي أصبحت تشكل سلوكاً و واقعاً لكنه غريباً و لا يقبله عقل و كما لا تقره شريعة .
كتاب نظام التفاهة كتب بصورة مشوقة تعرض فكرة جريئة مفادها أن العالم يعيش هذه الايام فترة مختلفة عن فترات التاريخ البشري ، حيث أن السلطة باتت بعيدة عن أيدي من يستطيعون التميز في القيادة و القدرة عليها ، و قد بسطت في أيدي التافهين من أفراد المجتمعات و الجهلاء بحقوق البشر و الإنتهازيين و الأنانيين باختلاف درجاتهم العلمية إن وجدت عندهم أو مستوياتهم الإجتماعية ، و قد صار هذا الأمر في تطور يوم بعد يوم حتى صار يكتسح جميع المجالات في السياسة و الإقتصاد و الفن و شتي مجالات الحياة في العالم اجمع ، وصارت (التفاهة) حسب وصف الفيلسوف نظاما يحتفى به في أماكن كثيرة في العالم ، و استطاع التافهون و الجهلاء أن يبنوا عالما جديدا يقتل الإبداع و المدعين و التميز و المتميزين ، ويشرع لسلوك متخلف، يمنع التطور في السلوك البشري القويم و يؤيد كل ما يُضِرُّ بالصالح العام .
هذا الكتاب كأنه يروي لنا الحالة السودانية التي نعيشها في هذه الأيام ، و عبارة تفاهة التي إستخدمها الكاتب أريد أن إستعيرها منه ليس من باب التحقير لشخص ما بعينه أو التقليل من شأن الرجال ، و أنما من باب إستعراض الحالة السودانية حيث أصبح معظم من ترأس على 10 أفراد من هذا الشعب إستعبدهم ، فحتى خفير المستشفى أصبح كالمسعور يحاول عض كل من وقف أمامه دون ان يعرف عن سبب مجيئه إلى المستشفى. فالكل منا يشتغل بتوافه الأمور و بالأشياء التي لا أهمية لها ، منحرفين عن الجادة و الصواب .
من ظن أن هذه الحرب المشؤومة في السودان ، و التي لم تكن دوافعها تحمل أي دوافع وطنية قد بدأت الآن فهو واهم ، والتي كانت نتاج خلاف بين شخصين فقط لا ثالث لهم ، و كل منهما يحتمي خلف مؤسسته العسكرية ، و لتأكيد ذلك يجب علينا أن نرجع إلي شهر يونيو من سنة 2021 أي قبل عامين من الآن حينما فؤجئ الشعب السوداني في صبيحة يوم ما من ذلك الشهر بالقوات المسلحة و هي تضع جواجز ترابية أمام قيادتها العامة ، و لقد تساءلنا عن سبب ذلك مستفهمين ، و كتبت حينها مقالاً يستفهم عن سبب وضع هذه الحواجز الترابية أمام القيادة ، فلم اجد ردا شافياً و كما لم تلتفت قيادة الجيش حينها للإجابة على أي سؤال .
تخيلوا معي في ظل هذه الظروف الإقتصادية المعقدة ذهبت قيادة الجيش في بناء حائط إسمنتي ضخم على إمتداد محيطها المكشوف من قيادتها ، و الذي من المؤكد قد أرهق ميزانية الجيش المليارات من الجنيهات و من قبل ذلك ضاعت تكلفة الحواجز الترابية دون الإلتفات إلى قيمتها ، و التي أصبحت فيما بعد تكلفة إضافية فوق تكلفة البنيان و أضف على ذلك تكلفة إزالة أنقاض الحواجز الترابية الشيء الذي كلف المؤسسة العسكرية أموالاً طائلة أخري ، فكان من الممكن بهذه القيمة الضخمة ان يسهم الجيش في إطار مسؤوليته المجتمعية في بناء الكثير من المؤسسات الخدمية مثل بناء المئات من المدارس و المستشفيات على إمتداد السودان ، و لقد كان أمر هذا البناء يسير على عجل حيث لم يتعطل ساعة واحدة ، و تم ذلك بمزانية مفتوحة ، و كأن هنالك شيء تم الإعداد له في القريب العاجل ، لم يتوقف حيث البنيان ساعة واحدة ، بل ظل الأمر يتواصل يوماً بعد يوم كإستعدادات وقائية و إحترازية من خطر قادم لا نعلمه نحن ، إلى أن أتت ساعة هذه الكارثة بعد إكتمال معظم أجزائه ، إنها حرب ضروس لم نرى لا مثيل من قبل في حياتنا و لاول مرة نرى تناثر الأشلاء و الجثت في الطرقات و الأحياء و و نشم رائحة الموت التي تفوح من كل شوارع الخرطوم بدنها الثلاث و في بعض الولايات ، حتى أصبح التطبيع من الموت و رائحته أمراً حتمياً يتعين علينا .
في بداية الثورة إنتقد قائد ثاني المدرعات تمدد جسم الدعم السريع في الخرطوم و هو اللواء عبد الباقي بكراوي و كان وقتها عميداً ، و تحت علم سعادة البرهان و بصفته قائداً أعلى للقوات المسلحة تم وضع هذا الضابط في الإيقاف الشديد إلى تمت محاكمته عسكرياً ، ثم قام بعد ذلك نفس هذا الضابط و لنفس السبب بعمل عسكري أسماه سعادة البرهان بالإنقلاب على السلطة على الرغم من أن هذا الضابط قال و بالحرف الواحد : (أنا لا أريد أن إنقلب على السلطة و إنما أريد أن ألفت نظر القوات المسلحة إلى نفس ذات السبب الذي حوكم به من قبل) و ما زال هذا الضابط إلى الآن في الإيقاف الشديد و تحت المحاكمة العسكرية التي لم تنتهي بعد ، فما السبب وراء إختلال المعايير طالما سبب الحرب و إنقلاب بكرواي يحملان نفس المبدأ يا سعادة البرهان .
لقد ظل سعادة البرهان طيلة هذه الفترة يمجد في مؤسسة الدعم السريع و في قيادته ، و كما كنا نحن كذلك نشهد بكل إيجابيات هذه المؤسسة على أرض الواقع و خصوصاً في أماكن النزاع المسلح في دارفور و جنوب كردفان و في الشرق و في أماكن كثيرة من أراضي بلادنا المترامية .
تظل المؤسسة العسكرية اصلية في وجدان كل السودانيين ، و لن يقبل أي فرد من أفراد هذا الشعب العظيم بأي مساس تجاهها مهما كانت الاسباب ، قد نختلف مع قادتها في بعض الأشياء الشكلية حولها و لكن تظل هي الأعلى في مقدساتنا الوطنية .
أستغلت بعض القوى المدنية الموقعة على الإتفاق الإطاري بوادر هذا الخلاف بين الرجل و نائبه إستغلالاً سيئاً ، و تم ذلك بالإيعاز أو التشجيع و المباركة من بعض دول الغرب ، و هو في الأصل كان خلافاً شخصياً لم يقم على أمر جوهري يحسب في حسابات القضايا الوطنية و كما لم يقم على مبدأ الخلاف ،حيث بدأ كبيراً على صيغة تخالف و ليس إختلاف ، و قد أسس قارعي الطبول أفكار عملية و علمية لتأحيج التوتر الحالي متبطنين بالمسار السياسي الشيء الذي. ضخم الخلاف و عّجِل بنذر المواجهة الحالية .
و حينما إكتملت كل خيوط هذه اللعبة القذرة تدخل الخلاف الأزلي بين اليسار و اليمين فكان كل من الفريقين يقرع بطبول حربه ضد الآخر وظن الكل بأن الحرب ستكون عبارة نزهة سياحية ستنهي حسب ما ظنوا خلال يوم أو يومين ، إلى أن أوصلونا إلى هذا المربع الملتهب و كما أريد أن يعرف الجميع بأن الحرب لم تبدأ بعد ، و سيكون القادم أسوأ مما يتوقع قارعي الطبول إلى ان يوصلوا كامل الشعب إلى مخيمات اللاجئين .
من المؤكد ان تحويل الصراع السياسي في البلاد لصراع مسلح سيغيب الطبيعة السياسية المدنية و سينسف مسار الانتقال المدني الديمقراطي ، و بغض النظر عن من الذي ستؤول إليه الغلبة فالسودان هو الخاسر ، إن كان البرهان قد أتقن المراوغة السياسية خلال هذه السنوات السابقة فعليه أن يعلم أن هذه الحرب لم تؤسس على قضية وطنية جامعة مهما إجتهد في تثبيت ذلك ، حيث تم تشكيل هذا المشهد الخلافي على أمر شخصي بينه و بين حميدتي و تبناه معه شخصان معلومان للكل داخل مؤسسة الرئاسة و ساهم تجار الحرب بتوسيع الفتق لمصالح مادية أو معنوية رخيصة يغلب عليها الطابع الأيدولجي .
لقد فرض الواقع على طريقة تشجيع هلال مريخ الوقوف مع أحد( طرفي النزاع) و انا مصر على إستخدام هذه العبارة (طرفي النزاع) لان الخلاف بينهما لم يقم على ثوابت وطنية ، و بطبيعة الحال سيقف معظم السودانيين مع المؤسسة العسكرية و هذا أمر مفرغ منه و واجب على الجميع و لكن سيظل مضمون الخلاف الذي نشأت على أسبابه هذه الحرب و التي ستقضي على الأخضر و اليابس هو خلاف بين شخصين .. و إذا تم الإتفاق بين الرجلين و إزالة الخلاف في أي لحظة من اللحظات ستضع الحرب أوزارها و سيطوى هذا الملف الدموي في حال التوقيع عليه بكل مآسيه .
و يبقى السؤال المهم من الذي سيدفع فاتورة هذا الدمار في قوتنا البشرية التي فقدناها على الصعيدين المدني أو العسكري و الخسائر المادية التي خسرناها و نهبت من الكثيرين ، فكيف سنتجاوز هذه المرحلة من حياتنا و كما كيف سنعيد التأهيل النفسي لاطفالنا .. إنها فاتورة باهظة الثمن يا برهان و يا حميدتي قاتلكما الله الإثنين معاً أينما حللتم على موافقتكما على قرار هذه الحرب الكارثية في عواقبها و التي تم تجريبها داخل الصندوق السكني الآمن ، فروعتنا و أفقدتنا الكثيرين من أحبائنا و خسرنا أشياء كثيرة أقلها أن رأى أطفالنا ضعفنا في حمايتهم و الذي سيفسر فيما بعد جبناً داخل عقولهم اليانعة ، و سينتقص ذلك من قصص بطولاتنا إليهم حينما يشاهدونا نسرع معهم لنفترش الأرض خوفاً عندما تتقاطع اصوات نيران الهجوم و الدفاع بينكما .